إجتاز لبنان مطلع الشهر الجاري “قطوع” شلل مجموعات إنتاج الكهرباء في معملي دير عمار والزهراني، بعد اتصال هاتفي بين رئيس حكومة تصريف الأعمال، نجيب ميقاتي، ونظيره العراقي، محمد شياع السوداني. وفي هذا الإطار علمت “المدن” أن ميقاتي سيتوجه إلى العراق، في مهلة أقصاها نهاية الأسبوع الجاري، بزيارة خاطفة ليوم واحد. ويقتصر جدول أعمالها على لقاءات مع السوداني، يقف خلالها على “خاطر” السلطات العراقية، بعد الزوبعة التي أثارها تعرقل انسياب كميات الوقود العراقي المخصصة لدعم قطاع إنتاج الكهرباء في لبنان، وفقاً لآليته المحددة منذ سنة 2021، والتي ألزمت وزير الطاقة وليد فياض على التراجع عن تصريحاته بزيادة الإنتاج خلال فصل الصيف، بما يتلاءم مع تزايد الاستهلاك في مثل هذا الوقت من السنة.
التخلف عن السداد
وحسب معلومات “المدن”، فإن الخلل الذي لحق بمواعيد انسياب كميات الفيول الثقيل، التي تسمح الاتفاقية مع العراق باستبدالها بما يتلاءم مع حاجات معملي الزهراني ودير عمار من الديزل والنفط الخالي من الكبريت، لا ترتبط فقط بالتعقيدات المالية والقانونية غير المستجدة، التي تؤخر التزام لبنان بمسؤولياته تجاه اتفاقية مبادلة النفط العراقي بالخدمات، وإنما بما خلفته تصريحات نقلت عن وزير الطاقة مؤخراً، من استفزاز للسلطات العراقية، التي تواجه ضغطاً داخلياً نتيجة لعدم تحصيلها ديون لبنان المترتبة عن اتفاقية توريد كميات النفط.
شكلت اتفاقية النفط العراقي بمقابل الخدمات والسلع التي يمكنه الاستحصال عليها من لبنان، حلاً وحيداً جنّب لبنان العتمة الشاملة منذ سنة 2021. خصوصاً مع انعدام الحلول البديلة المرتبطة بحزمة إصلاحات جوهرية يطالب بها المجتمع الدولي. وعلى رغم الملاحظات التي يبديها خبراء على الكلفة المالية العالية لهذه الاتفاقية، والمساوئ البيئية التي يحملها، بدت اتفاقية المبادلة مع العراق كجزء من حل يمكن أن ينعش الاقتصاد اللبناني الإنتاجي والخدماتي. لا سيما أنه يجعل من الخدمات والسلع اللبنانية وسيلة لسداد مستحقات لبنان للجهات العراقية. وبالتالي، يوفر مالياً لمصلحتها موجودات الحساب الاعتمادي غير المعزز، المرتبط بالاتفاقية، والذي فتح بمصرف لبنان لصالح البنك المركزي العراقي، نيابة عن شركة تسويق النفط العراقية somo المعنية بعملية التوريد.
هذا، ولا يزال لبنان متخلفاً منذ أكثر من سنتين عن سداد ثمن الفيول العراقي، سواء مباشرة أو عبر سلة من الخدمات التي طال الحديث عنها، وهو لم يرس آلية لتطبيق هذه الاتفاقية حتى الآن. وهذا ما استفز السلطات العراقية مؤخراً، وفقاً لمصادر متابعة، بعد ما استشفته من خلال تصريح لوزير الطاقة وليد فياض، كشف عن نيات لتمويل زيادة إنتاج الطاقة من فائض متوفر في مداخيل زيادات تعرفة الكهرباء المتراكمة.
نقمة شعبية عراقية
هذه الإشكالية، وفقاً للمعلومات، تطلبت تدخلات على مستويات مختلفة، وتوظيف للرصيد الشخصي لبعض القيادات، التي استمرت بالتعويل على ما ترجمه العراق من خلال نفطه من دعم للبنان، وأبرزها إلى جانب تدخل رئاسة الحكومة مباشرة، ما بذله العميد حسن شقير نائب مدير عام أمن الدولة، كراعٍ للعلاقات المفتوحة مع العراق.
إلا أن زيارة ميقاتي المرتقبة لترطيب الأجواء بعد هذه الأزمة، قد لا تكون كافية لاستيعاب الانتقادات الشديدة التي تواجهها السلطات العراقية من مواطنيها والمعنيين فيها، نتيجة لعدم البدء باستيفاء ديونها المترتبة على لبنان. وهذه تبدو إشكالية أساسية ستضعف موقف لبنان في أي مفاوضات يخوضها، من أجل إعادة تجديد اتفاقيته مع العراق لسنة رابعة، والتي إذا صدقت المعلومات الصحافية حول مخططات لتمديدها حتى سنة 2028، يتوقع أن ترتب ديوناً للعراق تصل قيمتها حتى ذلك الحين إلى 5.45 مليار دولار ومن دون ضمانات بتوفير متواصل للطاقة.
المنصة الموعودة
يأتي ذلك في وقت لا تزال المنصة المطلوب تأسيسها لتحديد الخدمات والمنتجات التي يمكن للبنان تقديمها ومقارنتها بالاحتياجات المحددة من قبل العراق، حبراً على ورق. علماً أن قراراً حكومياً صدر منذ شهر تشرين الثاني من العام 2023، أي بالتزامن مع بدء سريان التجديد الثاني للاتفاقية، كلف مدير عام المؤسسة العامة لتشجيع الاستثمار في لبنان “إيدال”، مازن سويد، ونائبه علاء حمية، بوضع آلية تنفيذ “برنامج التبادل التجاري- النفط العراقي مقابل المنتجات والخدمات اللبنانية”، بما يتضمّنه من إنشاء منصة لعرض المنتجات اللبنانية وطلبها.
صدّق هذا القرار حينها، مع طلب بمراجعة البند المتعلق بحجم التمويل المخصص لإنشاء المنصة وتوفيره، والذي توصلت النقاشات حوله، وفقاً لما كشفته مصادر متابعة لـ”المدن” إلى رفعه من 200 ألف دولار إلى 400 ألف دولار سنوياً، بناء لطلب المعنيين في إيدال، الذين قدموا دراسة تظهر كلفة إنشاء المنصة وتأمين فريق مختص، وتكاليف الاستعانة بشركات مراقبة عالمية تضمن الجودة في الخدمات والمنتجات المصدرة، وتحرص على أن تكون أكلافها المسددة عادلة، إلى جانب تأمين نفقات السفر والمؤتمرات، والحملات الإعلامية.
إلا أنه على مشارف انتهاء سنة التمديد الثالثة للاتفاقية مع العراق، لا تزال المنصة تبحث عن تمويل إنشائها الذي يفترض أنه متوفر. وهذا ما يبدد الجهود التي بذلت عملياً بين المكلفين من قبل إيدال والسلطات العراقية لتحديد الأولويات والاحتياجات، والتي كان يفترض أن تنتهي بإرساء بروتوكول للتعاون، سيشرك المعنيين الرسميين في البلدين إلى جانب القطاع الخاص في تطبيقه. الأمر الذي خلّف إنطباعات متناقضة لدى السلطات العراقية، التي تؤكد المصادر أنها تبدي كل انفتاح وتعاون مع لبنان، ولكنها في المقابل تريد أن تلمس إيجابية مشابهة من الجانب اللبناني.
الحساب العراقي وطرق الإنفاق
التمويل الغائب لإنشاء المنصة، يوازيه غياب الوضوح حول حجم الإنفاق الممكن بضمانة الحساب الاعتمادي المفتوح بمصرف لبنان لصالح البنك المركزي العراقي، وسط تمنّع السلطات المعنية محلياً عن توضيح أرقام الموجودات، حتى للمعنيين بوضع خطة للإنفاق المستقبلي. علماً أنه من دون هذا الإنفاق عقبات تناقش في الأروقة المالية الداخلية، وأبرزها ما يتعلق بتجنب التضخم الذي قد ينتج عن التسييل النقدي للحساب الاعتمادي للعراق إلى العملة الوطنية، التي يفترض أن تسدد من خلالها مستحقات مؤمني المنتجات والخدمات للعراق. وهذا ما يشكل أحد الهواجس التي يعرب عنها مصرف لبنان، والذي ترى مصادر اقتصادية إمكانية لتبديده عبر اقتراحات بإنشاء محافظ إلكترونية بالعملة الوطنية، يمكن تسميتها بـ E-LIRA أو خلق آلية تسديد عبر الـE-MONEY تبقي التداولات المرتبطة بعملية مبادلة النفط العراقي بالخدمات اللبنانية في الإطار المصرفي، وتشكل نموذجاً لمشروع تجريبي قد يكون الأضخم من حيث إتاحته تنفيذ الخطوات الإصلاحية التي يطالَب بها مصرف لبنان دولياً، لمكافحة اقتصاد “الكاش” (النقدي) وما يحمله من محاذير في تبييض الأموال.
وفقاً لمصادر متابعة للملف، فإن النقاش مع الجانب العراقي حتى الآن مثمر جداً لجهة تحديد شكل المنصة ومهمتها وتصميمها. كما أن لجنته حاضرة. وهي قد حددت حاجاته، وهو توّاق للتعاون في أكثر من مجال، وليس فقط مع السلطات الرسمية، وانما على مستوى القطاع الخاص.
وتعرب المصادر في المقابل عن تفهمها لكون المبالغ المستحقة على لبنان ليست متوفرة بشكل كامل. ولذلك تطالب بتحديد السقوف المالية المسموح إنفاقها من ضمن ما هو متاح، مع التنويه إلى أن مثل هذا الوضوح مع تحديد الصيغة القانونية لضمان الحقوق، لا يسمح فقط ببناء الثقة مع العراق، الذي لا يزال يعتبر أن ضمانته الوحيدة لاسترداد ديونه هي في الحساب الاعتمادي، وإنما سيخلق ثقة موازية لدى القطاع الخاص اللبناني المطلوب تعاونه في تأمين الخدمات، بأنه سيضمن تقاضي مستحقاته من دون عراقيل مصرفية ومالية. وهو إلى ذلك، ضروري لتحديد هامش التحرك من ضمن سقوف الإنفاق المتوفرة .
ومن هنا تعتبر المصادر أن لبنان بتخلفه عن الانطلاق في آلية تسديد ثمن الفيول العراقي حتى الآن، لا يبدد فقط رصيد الدعم الذي لا يزال متاحاً من الجانب العراقي، وإنما يفوّت فرصة أساسية لتنشيط الدورة الاقتصادية من خلال تأمين الخدمات والمنتجات للشعب العراقي، التوّاق للتعاون مع القطاع الإنتاجي والخدماتي اللبناني على أكثر من صعيد.
فهل يلتزم ميقاتي بعد زيارته للعراق بتبديد العقبات التي تهدد مستقبل الاتفاقية، فيجنب حكومته لتصريف الأعمال القنبلة الموقوتة التي سيفجرها هذا الملف بوجهها، إذا لم تتمكن من تقديم الإجابات الشافية للجانب العراقي حول مواعيد وطرق تسديدها لمستحقاته؟