نحو شرْكةٍ زراعية عربية متكاملة: لبنان ومصر يطلقان خريطة طريق للأمن الغذائي المستدام والابتكار الزراعي

برزت زيارة وزير الزراعة في الجمهورية اللبنانية الدكتور نزار هاني إلى جمهورية مصر العربية بين 26 و28 آب 2025، كحدث استراتيجي ومفصلي في مسار الديبلوماسية الزراعية اللبنانية والعربية، في ظلّ التحديات العالمية المتسارعة، حيث تتقاطع الأزمات الاقتصادية مع تداعيات التغير المناخي وضغوط الأمن الغذائي العالمي..

وأطلق الوزير هاني مع نظيره المصري، وزير الزراعة واستصلاح الأراضي علاء فاروق، أعمال الدورة الخامسة للجنة الزراعية الفنية المشتركة بين البلدين، في حضور وفد لبناني رسمي رفيع المستوى ضمّ مديرين عامين وخبراء من وزارة الزراعة، إلى جانب ممثلين عن القطاع الخاص الزراعي، ما عكس شمولية المقاربة اللبنانية القائمة على الدمج بين الديبلوماسية الرسمية والديبلوماسية الاقتصادية – العلمية في آن واحد.

أولاً: أبعاد استراتيجية – من التعاون الثنائي إلى التكامل العربي

تؤكد هذه الزيارة أنّ التعاون الزراعي بين لبنان ومصر ليس جديداً، بل يستند إلى تاريخ طويل من التبادل التجاري والعلمي والزراعي، حيث أدّت مصر دوراً محورياً في استيعاب المنتجات اللبنانية، فيما وجد لبنان في مصر شريكاً أساسياً لتبادل الخبرات في الري، استصلاح الأراضي، ومكافحة الآفات.

غير أن الجديد في هذه المرحلة هو الانتقال من مجرد التعاون إلى التكامل المؤسَّس والهيكلي، بما يسمح بوضع خريطة طريق طويلة المدى.

ثانياً: مصر – نموذج في التوسع الزراعي والتكنولوجيا الحديثة

عرض الوزير فاروق المشروعات القومية المصرية التي أعادت رسم المشهد الزراعي في البلاد:

وأكد فاروق أنّ مصر ترى في لبنان شريكاً نوعياً بحكم موقعه الجغرافي، جودة منتجاته الزراعية، وانفتاحه على الأسواق الأوروبية والإفريقية، وهو ما يجعل التعاون ليس مجرد تبادل تجاري بل منصة مشتركة للتصدير والتسويق الزراعي المتكامل.

ثالثاً: لبنان – من التحدي إلى المبادرة

في عرضٍ شامل لرؤيته، أكّد الوزير هاني أنّ لبنان يواجه منذ سنوات أزمات مركّبة على المستويات الاقتصادية والبيئية والزراعية، لكنه استطاع تحويل هذه التحديات إلى فرصة لصياغة رؤية زراعية وطنية مبتكرة ترتكز على خمسة محاور رئيسية:

1. تطوير الزراعات الذكية مناخياً (Smart Agriculture) لمواجهة الجفاف، وموجات الحر، والتقلبات المناخية، بما يعزز مرونة الإنتاج الزراعي.

2. اعتماد نظم الري المقتصد باستخدام الطاقة الشمسية، وتقنيات التنقيط، والري المحوري، لضمان الاستدامة المائية وتقليل الهدر.

3. تفعيل الزراعة التعاقدية التي تربط المنتج مباشرة بالمستهلك، بما يساهم في استقرار الأسعار وحماية المزارعين.

4. تعزيز البحث العلمي الزراعي في الجامعات والمراكز الوطنية وربطه مباشرة بحاجات السوق العربي، لدعم الابتكار الزراعي المحلي.

5. فتح أسواق جديدة عبر “شراكات” استراتيجية، أبرزها التعاون مع مصر كبوابة نحو أفريقيا والأسواق الخليجية، بما يعزز تنافسية المنتج اللبناني.

وأشار الوزير هاني إلى أنّ لبنان لا يكتفي بنقل التجارب الدولية، بل يسعى ليكون مصدراً للحلول الزراعية المبتكرة وركيزة أساسية في شبكة الأمن الغذائي العربي، مؤكدًا على دوره القيادي في تحويل الرؤية إلى مبادرات عملية تعزز التنمية الزراعية المستدامة في المنطقة.

رابعاً: أولويات التعاون – خريطة طريق عملية

اتفق لبنان ومصر في ختام أعمال اللجنة الزراعية الفنية المشتركة على وضع خريطة طريق عملية تشكّل برنامج عمل للسنوات المقبلة، حيث شملت الأولويات:

• زيادة التبادل التجاري الزراعي عبر فتح السوق المصري أمام التفاح اللبناني بكميات أكبر، وفق معايير الصحة النباتية وسلامة الغذاء.

• تشكيل لجان علمية مشتركة متخصصة في تبادل الخبرات في مجالات:

o التغير المناخي وإدارته،

o تقنيات الري وإدارة الموارد المائية،

o تحسين السلالات الحيوانية،

o الاستزراع السمكي وإنتاج الأصبعيات،

o التعاونيات والتنمية الريفية المستدامة.

• إطلاق برامج تدريب وتبادل خبرات بين الباحثين والمزارعين في البلدين.

• التحضير لتوقيع اتفاقيتين في تشرين الأول 2025 خلال اجتماع اللجنة الوزارية المشتركة، إحداهما بحثية والأخرى تنموية.

• إنشاء منصة عمل مشترك في كانون الثاني 2026 تجمع المصدرين والمستوردين والمستثمرين اللبنانيين والمصريين، بما يعزز حركة التجارة الزراعية والاستثمار المتبادل.

وتُعتبر هذه الأولويات كترجمة عملية للرؤية الاستراتيجية التي أعلنها الوزيران، بما يرسّخ التعاون العلمي والاقتصادي، ويؤسس لشركة زراعية عربية نموذجية بين لبنان ومصر.

خامساً: زيارات ميدانية – من المختبر إلى الحقل

حرص الوفد اللبناني برئاسة الوزير هاني على أن تتجاوز الزيارة الطابع البروتوكولي، فشملت جولات ميدانية وعلمية إلى مؤسسات بحثية وإنتاجية مصرية، جسّدت عملياً مفهوم “البحث من أجل التنمية” وربط المختبر بالحقل والقطاع الخاص،

وتُبرز هذه الجولات أن التعاون اللبناني – المصري لا يقتصر على القرارات الرسمية، بل يترسخ عبر تبادل الخبرات العلمية، وتعزيز الابتكار الزراعي، وربط البحوث بالسياسات العامة، بما يمهّد لشركة متينة في مجالات الأمن الغذائي والتنمية المستدامة.

إنّ زيارة الوزير هاني إلى مصر مثّلت محطة مفصلية أعادت لبنان إلى واجهة الشركة الزراعية العربية، وأرست أسس تعاون ثنائي يقوم على التكامل البحثي، المناخي، الاقتصادي والرقمي.

وتُبرز هذه التجربة أنّ الزراعة في العالم العربي قادرة على الانتقال من قطاع تقليدي يواجه التحديات إلى محرك استراتيجي للاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي.

هكذا تتبلور ملامح نموذج عربي متجدد للأمن الغذائي المستدام، يجعل من الزراعة ركناً أساسياً في مسار التنمية المستدامة، ورافعة لمستقبل أكثر صموداً وتكاملاً في المنطقة.

مصدرالديار
المادة السابقةالحد الادنى لكلفة المعيشة 900 دولار والحد الادنى للرواتب اليوم 312 دولارا
المقالة القادمةأسعار الـ «جيغابايت» انخفضت والفاتورة ارتفعت