في هذه المرحلة بالذات، بات هناك أهميّة خاصّة لدراسة ميزانيّة مصرف لبنان، وما يطرأ عليها من تحوّلات ظرفيّة وسريعة. فالأرقام الحاليّة، هي ما سيحدّد الوضعيّة الماليّة للمصرف، التي يفترض أن يتعامل معها قانون الانتظام المالي، أو قانون الفجوة الماليّة كما بات يُعرف إعلاميًا. وكما هو معلوم، ليست هذه “الفجوة” سوى الفارق ما بين التزامات مصرف لبنان بالعملات الأجنبيّة، وما تبقى بحوزته من أصول فعليّة. وأهم هذه الأصول، التي يُعتد بها لدراسة ملاءة المصرف وموجوداته، تتركّز في بنديّ احتياطات العملات الأجنبيّة ومخزون الذهب.
خلال النصف الأوّل من شهر أيلول، حصلت تغيّرات سريعة في بنية ميزانيّة مصرف لبنان. وفي النتيجة، يمكن القول أنّ ما طرأ من زيادة في قيمة الموجودات الفعليّة، سيسمح بتقليص حجم الفجوة الماليّة بنحو 2.28 مليار دولار أميركي. فما علاقة هذه التحولات بالمتغيّرات الاقتصاديّة على المستوى الدولي؟ وكيف ستؤثّر على قانون الفجوة الماليّة، الذي يفترض أن يُحال قريبًا إلى الحكومة اللبنانيّة لدراسته؟
التغيّر في قيمة الذهب
خلال النصف الأوّل من هذا الشهر، شهدت الميزانيّة ارتفاعًا مفاجئًا في قيمة بند احتياطات الذهب، من 31.47 مليار دولار أميركي في بداية أيلول، إلى قرابة 33.6 مليار دولار أميركي في منتصف الشهر. أي بمعنى آخر، ارتفعت قيمة احتياطات الذهب بقيمة 2.13 مليار دولار أميركي خلال فترة لا تتجاوز 15 يومًا، ما شكّل كتلة ضخمة من الأرباح الدفتريّة التي لا يمكن الاستهانة بها.
ولفهم حجم أرباح مصرف لبنان خلال السنة الماضية، جرّاء الزيادات الشهريّة المتكرّرة في بند الذهب، يمكن العودة إلى حجم هذا البند خلال الفترة المماثلة من العام الماضي. ففي منتصف شهر أيلول من السنة الماضية، لم تكن قيمة احتياطات الذهب في مصرف لبنان تتخطى حدود 23.7 مليار دولار أميركي. وهذا ما يشير إلى أنّ مصرف لبنان حقّق أرباحًا بقيمة 9.9 مليار دولار أميركي، أي بنسبة 31.45 بالمئة، خلال سنة واحدة، جرّاء الارتفاعات المتتالية في قيمة احتياطات الذهب.
ومن المهم الإشارة إلى أنّ هذه الزيادات مرتبطة بإعادة تقييم هذه الاحتياطات، في ضوء التغيّرات في أسعار الذهب العالميّة. وخلال الفترة الماضية، سجّلت هذه الأسعار مستويات قياسيّة وغير مسبوقة، على وقع قرار خفض الفوائد الذي اتخذه مؤخرًا الاحتياطي الفيدرالي (بمثابة المصرف المركزي) في الولايات المتحدة الأميركي، مع توقّع الأسواق المزيد من تخفيضات الفوائد قبل نهاية العام الحالي. ومن البديهي أن ترتفع أسعار الذهب بالتوازي مع انخفاض مستويات الفائدة. فخفض الفوائد يجعل أسواق السندات أقل جاذبيّة، مقارنة بأسواق المعادن النادرة، ما يدفع المستثمرين إلى زيادة توظيفاتهم في أصول كالذهب.
زيادة الاحتياطات
خلال الفترة نفسها، شهدت احتياطات العملات الأجنبيّة لدى مصرف لبنان قفزة موازية، من 11.67 مليار دولار أميركي في بداية شهر أيلول، إلى 11.83 في منتصف الشهر، ما شكّل ارتفاعًا بقيمة 160 مليون دولار أميركي خلال فترة 15 يوماً. وهذه الزيادات، ارتبطت بعمليّات شراء الدولار من السوق الموازية، التي يقوم بها مصرف لبنان، بالاستفادة من طلب الجمهور على الليرة لتسديد الرسوم والضرائب.
وخلال الفترة نفسها، سجّلت ودائع القطاع العام ارتفاعًا موازيًا، من 7.85 مليار دولار أميركي في بداية شهر أيلول، إلى قرابة 8 مليار دولار أميركي في منتصف الشهر، ما شكّل زيادة بنحو 150 مليون دولار أميركي. وهذا ما يشير إلى أنّ مصرف لبنان ما زال يستفيد من سياسة التقشّف الحاد، التي تقوم على مراكمة الإيرادات العامّة في المصرف المركزي بدل صرفها، لجمع وامتصاص الليرات اللبنانيّة من السوق.
وبهذا الشكل، يوازن مصرف لبنان ما بين الليرات التي يقوم بضخها خلال عمليّة شراء الدولار السوق، والليرات التي يقوم بامتصاص عبر احتجاز الإيرادات العامّة، ما يسمح بزيادة احتياطات العملات الأجنبيّة من دون التوسّع بخلق النقد بالعملة المحليّة. أو بعبارة أخرى: يقوم مصرف لبنان بتحميل ماليّة الدولة، وميزانيّتها العامّة، كلفة الاستقرار النقدي، والاستمرار بزيادة الاحتياطات.
وللتأكيد على هذه النقطة، تكفي الإشارة إلى حجم الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة اللبنانيّة، خارج مصرف لبنان، والتي ظلّت مستقرّة عند مستوى 74.51 ترليون ليرة لبنانيّة في منتصف أيلول، مقارنة بنحو 72.86 ترليون ليرة في بداية الشهر. ما عنى أنّ حجم هذه السيولة لم يرتفع إلا بحدود 18 مليون دولار أميركي، خلال النصف الأوّل من الشهر.
هبوط الخسائر
خلاصة الأمر، يمكن القول إنّ حجم احتياطات الذهب والعملات الأجنبيّة ارتفعا معًا بنحو 2.29 مليار دولار أميركي، خلال النصف الأوّل من الشهر الحالي، ما يُفترض أن يخفّض حجم الخسائر بقيمة مماثلة، عند تقدير حجم الفجوة الماليّة. مع الإشارة إلى أنّ المقاربات المعتمدة حالياً لاحتساب الفجوة تقوم بأخذ قيمة الذهب بالاعتبار، عند احتساب حجم موجودات المصرف المركزي، ومن ثم احتساب الفجوة التي ستتم معالجتها للوصول إلى التوازن المالي المنشود. وحتّى هذه اللحظة، تتفاوت التقديرات بخصوص الحجم الإجمالي لهذه الفجوة، لكنّ معظم الدراسات تشير إلى انخفاضها إلى مستويات تتراوح بين 50 و55 مليار دولار أميركي.
بطبيعة الحال، لن تنعكس الزيادات في قيمة الذهب بزيادة في حجم الودائع التي سيتم ضمانها على المدى القصير جداً، خصوصًا إذا تم استبعاد الأفكار التي تقوم على بيع جزء من احتياطات الذهب. إلا أنّ تقليص حجم الفجوة، سيقلّص حجم التزامات مصرف لبنان التي ينبغي تخفيضها أو التخلّص منها، للوصول إلى التوازن المالي في الميزانيّة. لكن في المقابل، ثمّة مخاوف لا يمكن التقليل من شأنها، من احتمالات إقحام الذهب في مغامرات “استثماريّة” ملغومة، مثل ربطه بمشتقات ماليّة معقدّة مع شركات أجنبيّة، وهو ما قد يفضي إلى المقامرة به من دون الاستفادة منه.



