هجرة الاستثمارات لا تقلّ خطورة عن هجرة الأدمغة

مع استعصاء فتح أبواب الحلول المنطقية للأزمة الاقتصادية والمالية والنقدية اللبنانية، فُتحت أبواب الهجرة على مصراعيها. ظاهرة، وإن لم تكن جديدة على لبنان، إلا أنها تختلف جذرياً عن هجرات العصر الحديث التي أعقبت أحداث 1860، ومجاعة 1914 وحرب 1975. هذه المرة لم تقتصر على هجرة عمال الياقات البيضاء والزرقاء والوردية، إنما تعدتها إلى هجرة الاستثمارات.

في الوقت الذي تتعدد فيه أنواع هجرة الأفراد والعائلات، لا يوجد تعريف واضح لـ»هجرة الاستثمارات». البحث يقود دائماً إلى «هروب الرساميل». بيد أنه في الحالة اللبنانية الراهنة يظهر التوصيف الأخير غير دقيق، أو أقله يحمل الكثير من الاجحاف بحق المستثمرين، وخصوصاً اللبنانيين منهم. ففي حين يرتبط هروب الرساميل بفعل إرادي وبالطبيعة «الجبانة» لرأس المال، تظهر هجرة الاستثمارات على كونها حلاً إجبارياً لا اختيارياً، للمحافظة على ما بقي من أعمال، بعدما أمعنت المنظومة بضرب كل مقومات الصمود. فهي لم تترك فعلياً الكثير من الآمال لرجال الاعمال لا في السياسة، ولا في السياسات المالية والنقدية والامنية والاقتصادية والاجتماعية.

جملة عوامل ضاغطة

في العادة يكفي توفر سبب واحد من الاسباب التالية لـ»تهرب» الرساميل من البلد: زيادة في الضرائب، أو تخلف حكومة الدولة عن سداد ديونها، أو فقدان الثقة في قوة الدولة الاقتصادية، أو غياب الاستقرار السياسي وتزايد الأحداث الأمنية، أو انهيار العملة وتراجع القوة الشرائية للمواطنين، أو انعدام الخدمات من ماء وكهرباء واتصالات وبنى تحتية، أو إقفال باب التصدير… كلها حصلت في لبنان في غضون عامين وإلى أبعد الحدود. و»مع هذا بقينا متمسكين ببلدنا، وحاولنا الصمود حتى النفس الأخير»، يقول نائب رئيس جمعية الصناعيين اللبنانيين جورج نصراوي. لكن اليوم بدأنا نشهد مرحلة جديدة من التراجعات، نتيجة ارتفاع تكاليف الطاقة بشكل أساسي، وضعف القدرة على تحملها. حيث يضطر الصناعي إلى تأمين الكهرباء لمعمله بواسطة المولدات الخاصة التي تستهلك كميات كبيرة من المازوت، وتحتاج للصيانة بشكل دائم». ومما «زاد الطين بلة»، تجاوز برميل المازوت عتبة 260 دولاراً نتيجة ارتفاع أسعار المحروقات عالمياً، وغياب كهرباء الدولة بشكل شبه كلي.

هذا العائق الاساسي والجوهري المتمثل بالقدرة على تأمين الطاقة للصناعة، ليس له وجود في الوجهات التي يبحث فيها الصناعيون عن فسحة استثمار لانشاء خط صناعي جديد داعم. إذ إن الكهرباء مؤمّنة بأسعار معقولة ومنطقية 24/24 من قبل الدولة، من دون أن نتطرق إلى بقية التهسيلات الجمركية، وتوفر البنى التحتية الممتازة في المدن الصناعية. فـ»منذ نحو الشهر توجهنا مع حوالى 25 صناعياً إلى سلطنة عمان لاستكشاف الفرص الاستثمارية»، يتابع نصراوي، و»قد لفتتنا التسهيلات المقدمة لنا على صعيد المدن الصناعية المجهزة، وكلفتها المنخفضة بالمقارنة مع لبنان. الامر الذي شجع البعض للبقاء والعمل هناك. من دون أن يعني ذلك بالطبع إقفال الاستثمار في لبنان، إنما التوسع خارجياً وليس داخلياً، ولا سيما أن التواجد في السلطنة يؤمن دخولاً سهلاً إلى سوق المملكة العربية السعودية الذي يمثل أهمية كبيرة لصادرات المنتجات الصناعية، وذلك بعد إقفاله من لبنان (بسبب عدم وضع الضوابط المطلوبة لتهريب المخدرات في بعض الشحنات).

التعويل على زيادة الصادرات الصناعية وتعزيز تنافسيتها في الاسواق الداخلية والعالمية كان كبيراً مطلع الازمة. فانخفاض سعر صرف العملة الوطنية مقابل الدولار، كان من شأنه أن يجعل من أسعار السلع اللبناية أقل من منافسيها في الاسواق، ويزيد الطلب عليها. إلا أن هذا لم يحدث بسبب عدم قدرة المنتجين على زيادة الاستثمارات داخلياً وإنشاء خطوط جديدة للأسباب التالية:

– إنعدام الاستقرار السياسي وإقفال الكثير من أسواق دول الخليج العربي أمام البضائع اللبنانية.

– ترهل البنى التحتية.

– إرتفاع التكاليف بشكل هائل.

– إنفجار مرفأ بيروت وتضرر نصف العاصمة.

– إضراب القطاع العام وتعطيل تخليص المواد الاولية المستوردة وعمليات التصدير.

– إنهيار القطاع المصرفي.

– عدم القدرة على التصرف بالودائع.

لا مخاطرة بأي «ليرة»

وعليه فضّل المنتجون عدم المخاطرة في ضخ أي «ليرة» إضافية في هذه البيئة الخطيرة وغير الآمنة، والتوجه للاستثمار في الخارج. وفقد الاقتصاد بذلك فرصة جدية لتحقيق النمو وخلق فرص عمل جديدة من جهة، وتخفيض العجز في ميزاني التجارة والمدفوعات من الجهة الثانية. و»هذا ما تتحمل مسؤوليته الدولة التي لا تملك لغاية الآن أي مخطط تنفيذي للخروج من الازمة، أو حتى برنامج إنمائي لكي تحافظ على الصناعة»، بحسب نصراوي ن فـ»الوزارات مختلفة مع بعضها البعض على القوانين. ولنأخذ فقط مثال وزارة الاقتصاد وخطأ الدعم القاتل الذي ارتكبته، والفوضى السائدة اليوم في موضوع القمح». نصرواي الذي يؤكد على اهتمام وزارة الصناعة، يقول أن عمل وزارة واحدة لا يكفي إذا لم يكن هناك من تضامن وزاري وحكومي ورؤية واضحة للمستقبل.

لا قروض

هذا ويرتبط قيام وتطور الاعمال في أي بلد من البلدان بشكل مباشر بوجود قطاع مصرفي قوي وقادر. ومن دون بنوك موثوقة قادرة على جذب الودائع وتسليف المستثمرين يصبح الامل ضعيفاً، إن لم يكن مستحيلا بزيادة التوظيفات وتحقيق النمو. ومع انهيار القطاع المصرفي في لبنان أصبح الصمود بالنسبة للصناعيين هو فعل مقاومة»، من وجة نظر نصراوي، «حيث يتحتم عليهم تأمين الاستمرارية بمبادرات فردية». وبرأيه «لو كان هناك قطاع مصرفي متماسك، لكنا رأينا نمواً أكبر في القطاع الصناعي حتى لو كانت هناك أزمات سياسية واقتصادية».

هجرة جماعية؟

«البحث عن فرص استثمارية في الخارج لم ينحصر بالقطاعات الانتاجية إنما تعداها أيضاً إلى الخدماتية والتجارية. وإذا ظلت الامور سائرة على ما هي عليه اليوم فسنصبح كلنا في الخارج»، يقول نقيب أصحاب معارض السيارات المستعملة إيلي قزّي. «فعلى الرغم من أن الجزء الاكبر من إيرادات الدولة يؤمنه القطاع الخاص، توضع العراقيل يومياً في وجهنا من قبل السلطة والقطاع العام على حد سواء. فمن جهة لا يوجد دولة قادرة على اتخاذ القرارات وحمايتها وتنفيذها، ومن الجهة الاخرى يشل إضراب الموظفين وتسكير الإدارات العامة وعدم القدرة على تخليص البضائع من المرفأ قدرتنا على الحركة. وفي ما خص قطاعنا بالذات، أي قطاع بيع السيارات المستعملة فقد رضينا بـ»همّ» احتجاز أموالنا وتراجع نسبة البيع، إلا أن «همّ» الدولة لم يرض بنا. حيث نعجز عن تسجيل السيارات المباعة الامر الذي يفقدنا الزبائن ويهدد باقفال ما تبقى من معارض. خصوصا أن مؤسساتنا قائمة في المدن وعلى الطرقات العامة الاساسية وكلفة استثمارها كبيرة جداً». كل هذه الامور دفعت قزي إلى التوسع في سلطنة عمان، وتدفع غيره من التجار إلى نقل استثماراتهم إلى السلطنة أيضاً للهروب من هذا الواقع المرير. فالعمل في الخارج لا يحافظ على الاستثمارات وينميها، إنما يحافظ على راحة بال المستثمر وصحتة التي يدفع منها يومياً ثمن ما جنوه على البلد.

الحجم الفعلي للاستثمارات الخارجية لم يقدر بعد بشكل دقيق ولو أن كل المعطيات تشير إلى أنه كبير جداً في حال مقارنته بسنوات ما قبل الازمة. والسبب المرجح هو أن الاغلبية من المستثمرين ما زالوا يقومون بعمل استطلاعي ويستكشفون الفرص ويجسون النبض بداية. بيد أن هذه العملية لن تلبث أن تتوسع بشكل عمودي، في حال لم تبصر الخطة التنفيذية النور للخروج من الازمة، ولم تبادر الدولة إلى إعادة هيكلة القطاع المصرفي وتنظيفه، مع الابقاء على الصالح والقادر على العمل، ولم تعمد إلى توحيد سعر الصرف والانتهاء من خزعبلات المنصات، ولم تحصن القضاء وتعزز استقلاليته، ولم تؤمن الطاقة بشكل مستدام، حينذاك على الاستثمارات في لبنان السلام.

مصدرنداء الوطن - خالد أبو شقرا
المادة السابقةأزمة هجرة الأطباء والممرضين تتفاقم أكثر فأكثر
المقالة القادمةما هو مصير اللولار؟