خمسة أيّام عمل بالتمام والكمال مرّت، منذ توجيه 11 مصرفًا لبنانيًّا مذكّرة “ربط نزاع” لوزارة الماليّة، تمهيدًا لمقاضاة الدولة اللبنانيّة في حال عدم الاستجابة. وحتّى هذه اللحظة، لم يصدر عن وزارة الماليّة أو وزير الماليّة يوسف خليل أي تعليق، على مطالبة المصارف بأكثر من 67.9 مليار دولار أميركي، تدّعي مذكّرة ربط النزاع أنّها مترتّبة على الدولة لمصلحة مصرف لبنان، المدين بدوره للمصارف التجاريّة.
مع الإشارة إلى أنّ خيارات وزارة الماليّة تتنوّع بين قبول الاستدعاء وتسديد المبلغ، وهو خيار مستحيل عمليًا لعدم توفّر المبلغ، أو رفض الاستدعاء بتعليل خطّي، أو التغاضي عن الإجابة، ما سيمثّل رفض ضمني لكن غير مُعلّل. وفي جميع الحالات، ستمتلك المصارف حق مقاضاة الدولة بمرور شهرين في حال عدم الإجابة.
مسار التزوير في ميزانيّات المصرف المركزي
ثمّة ما يكفي من أسباب لطرح علامات إستفهام حقيقيّة حول أداء الوزير وأسباب صمته، وخصوصًا في ما يتعلّق بطبيعة المبالغ التي تدّعي المصارف أنّها مترتبة كديون على الدولة، لمصلحة مصرف لبنان.
فقصّة هذه المبالغ لم تبدأ اليوم فعليًا، بل بدأت منذ شهر شباط الماضي، حين قرّر حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة إضافة دين جديد على الدولة اللبنانيّة، مستحق لمصلحة مصرف لبنان، في ميزانيّة مصرف لبنان النصف شهريّة، وبقيمة ناهزت الـ 16.62 مليار دولار.
ومثّل هذا المبلغ، أي الدين الجديد، كل الدولارات التي باعها مصرف لبنان للدولة اللبنانيّة منذ العام 2007 بموجب عمليّات قطع عاديّة، أي عبر تحويل أموال الدولة اللبنانيّة من الليرة إلى الدولار، إلى أن قرّر سلامة، بعد 16 عامًا، في شباط من هذه السنة، احتساب هذه المبالغ كديون على الدولة، من دون أي تعليل أو سند قانوني.
بمعنى آخر، لم تقترض الدولة هذه الأموال بالفعل، ولذلك لم يتم تسجيل هذه المبالغ كديون في الماضي. بل قرّر سلامة هذه السنة العودة بالتاريخ إلى الوراء، واحتساب عمليّات القطع كديون عامّة بمفعول رجعي، في إجراء محاسبي غير طبيعي وغير مفهوم. ومن المعلوم أن عمليّات القطع لا تمثّل أصلًا عمليّات استدانة فعليّة، بل هي عمليّة استبدال للأرصدة بين عملة إلى أخرى، كما يفعل الأفراد لدى أي صرّاف أو مصرف في الأحوال العاديّة.
ثم كانت الطامّة الكبرى في بدايات شهر حزيران، حين بدأ سلامة بإضافة ديون أخرى على الدولة، بقيمة 51.3 مليار دولار، وهي إجمالي قيمة العجز المتراكم في ميزانيّة مصرف لبنان على مرّ العقود الماضية، والتي قرّر سلامة أنّها يفترض أن تكون إلتزامات متوجّبة على الدولة اللبنانيّة. وهكذا، وخلال بضعة أشهر معدودة، قبيل مغادرة سلامة منصبه، جرت إضافة دين إجمالي جديد على الدولة اللبنانيّة، بقيمة 67.9 مليار دولار.
المذكرة: استكمال لمسار التزوير
من الناحية العمليّة، كان هناك الكثير من الأصوات التي حذّرت منذ البداية من عمليّة التزوير التي تجري في ميزانيّة مصرف لبنان، في آخر أشهر من ولاية سلامة.
إذ لم يكن هناك أي موجب قانوني يبرّر إضافة دين الـ 16.62 مليار دولار على الدولة، باستثناء ادعاء سلامة أنّ هناك “تفاهم” نصّ على ذلك مع وزارة الماليّة منذ 16 سنة. وطبعًا، لم يُبرز سلامة أي وثيقة أو عقد إقراض أو مستند يدعم زعمه، كما لم يُبرز أي مصادقة من المجلس النيابي على عقد قرض من هذا النوع. أمّا وزراء الماليّة الذي مرّوا على الحكومات المتعاقبة طوال هذه المدّة، فلم يصادقوا في أي وثيقة على قيمة هذا الدين.
أمّا الدين الآخر، أي الـ 51.3 مليار دولار، فقصّته أكثر غرابة. إذ استند سلامة على بعض مواد قانون النقد والتسليف، التي تحمّل الدولة مسؤوليّة إطفاء العجز السنوي في ميزانيّة مصرف لبنان، إذا تخطّى هذا العجز حدود معيّنة، وبحسب الميزانيّة السنويّة المنشورة والمدقّقة.
وكما هو معلوم، لم تنص ميزانيّات مصرف لبنان طوال السنوات التي سبقت الانهيار على عجز من هذا النوع، بل كانت الميزانيّات تُظهر أرباحًا محققة. أمّا الفجوة التي انكشفت بعد الانهيار، فكانت حصيلة عمليّات احتيال محاسبيّة جرت على مرّ أكثر من 20 سنة، لإخفاء الخسائر المتراكمة، وهو ما يفرض التدقيق في مصدر هذه الخسائر وهويّة المستفيدين منها، لا تسجيلها كديون على الدولة وكأنّها عجز سنوي صغير وطبيعي يمكن تحمّله.
باختصار، لقد كان اللبنانيون أمام عمليّة تزوير منظمة وضخمة في ميزانيّات مصرف لبنان، خصوصًا أن الميزانيّات الجديدة باتت تُظهر قيود تتضارب مع تلك التي كانت تظهر قبل حصول عمليّات التزوير. ومن المهم الإشارة إلى أنّ قيمة الديون العامّة التي جرت إضافتها بموجب عمليّات التزوير توازي أكثر من ضعفي الديون العامّة القائمة بالعملة الأجنبيّة، والتي يمتنع لبنان عن سدادها منذ آذار 2020. ولتسديد الديون العامّة بعد إضافة عمليّات التزوير، ستحتاج الدولة إلى التخلّي عن إيراداتها لأكثر من 60 سنة، من دون أن تنفق على أي أمر آخر!
في النتيجة، لم تكن مذكرة ربط النزاع المصرفيّة الجديدة سوى استفادة من نفس عمليّات التزوير السابقة. أمّا غاية كل هذا المسار، فهو تحويل جميع خسائر القطاع المصرفي، التي تظهر في ميزانيّة المصرف المركزي، إلى ديون على الدولة اللبنانيّة، أي على جيوب دافعي الضرائب وأصول الدولة.
وبهذا الشكل، لقد كان اللبنانيون أمام مخطط احتيالي منظّم، أبطاله حاكم المصرف المركزي المزوّر، وجمعيّة المصارف المستفيدة من التزوير، ووزارة الماليّة الصامتة إزاء كل ذلك.
علامات استفهام حول أداء الوزير
علامات الاستفهام حول أداء الوزير تبدأ أولًا من صمته إزاء عمليّات التزوير المنظّمة التي جرت في ميزانيّة المصرف المركزي، ابتداءً من شهر شباط الماضي.
مع الإشارة إلى أنّ دوره كوزير للماليّة كان يفرض تدخّله، أولًا بوصفه خط الدفاع الأوّل عن المال العام، وثانيًا بوصفه الوزير الوصي على المصرف المركزي، والمخوّل بالإشراف على أعماله. أمّا الأهم، فهو أنّ وزارة الخليل هي الوزارة المعنيّة بالاتفاق المزعوم، الذي رتّب بموجبه سلامة دين الـ 16.62 مليار دولار، وهي الوزارة التي كان يفترض أن تتحفّظ على هذا الزعم. وعلى أي حال، تمثّل مفوضيّة الحكومة لدى المصرف المركزي، التي تتبع لوزارة الماليّة، الأداة الأساسيّة للرقابة على ميزانيّات المصرف المركزي، التي جرت من خلالها عمليّة التزوير.
وعلى هذا النحو، ظلّ وزير الماليّة صامتًا حتّى بعد تلقّيه سؤالًا برلمانيًا من تسعة نوّاب في البرلمان، حيث طلب هؤلاء النوّاب إيضاحات بخصوص حقيقة الديون الجديدة التي تم تسجيلها في المصرف المركزي، وسبب ظهورها على نحوٍ مفاجئ في شهر شباط من هذا العام. كما سألوا عما إذا كانت الوزارة قد دققت بالأرقام التي أعلن عنها المصرف المركزي، وعن الإجراءات التي ستقوم بها حيال “محاولة مصرف لبنان تغطية خسائره وخسائر المصارف من أموال الدولة بهندسة من حاكم المصرف المركزي.” ورغم أن القانون يُلزم الوزير بالإجابة على السؤال خلال مهلة 15 يومًا، لم يقدّم الوزير أي إجابة.
بهذا الشكل، ترك يوسف خليل الباب مشرّعًا أمام عمليّة التزوير التي جرت، من دون أي تعليق أو تحفّظ، ومن دون أي تفسيرات تشرح سبب ظهور ديون عامّة جديدة على مرحلتين (أولًا 16.62 مليار دولار، ثم 51.3 مليار دولار). أمّا الملفت للنظر، فهو أنّ قيمة الدين التي يتغاضى خليل عن مناقشتها، توزاي أكثر من 3.2 مرّات حجم الاقتصاد برمّته، ما يجعل صمت الوزير ملتبسًا إلى حد بعيد.
صمت الوزير
تمامًا كما صمت إزاء عمليّة التزوير في ميزانيّات مصرف لبنان، يصمت يوسف خليل إزاء مذكرة ربط النزاع، التي تستثمر وتبني على عمليّة التزوير، وعلى تقصير وزارة الماليّة في هذا الملف.
كان من الممكن تفهّم صمت وزير الماليّة، كحرص على المسار القانوني، وربما كتحضير لمواجهة قضائيّة أوسع مع المصارف لاحقًا. إلا أنّ أداءه في ما يخص عمليّة التزوير، موضوع كتاب ربط النزاع، لا يُنبئ بذلك. بل على العكس تمامًا، ثمّة ما يدفع إلى الشك بأن صمت وزارة الماليّة الراهن، سيُستكمل بنفس سياسة النأي بالنفس، عن هذا الملف الحسّاس الذي يُعنى بأموال عموميّة يفترض أن تدافع عنها وزارة الماليّة. وثمّة خشية من أن تؤدّي هذه المقاربة إلى منح المصارف المزيد من الأسلحة في وجه الدولة اللبنانيّة، كما منحتها عمليّات التزوير أسلحة قانونيّة استخدمتها في مذكرة ربط النزاع.
أخيرًا، وبالإضافة إلى عمليّات التزوير التي تبني عليها المصارف مزاعمها، ثمّة جانب آخر من حجج المصارف القانونيّة، التي يفترض أن تتعامل معها وزارة الماليّة حرصًا على المال العام. فالمصارف، من خلال مذكرة ربط النزاع، استعانت بنص من القانون الخاص، لتأخذ مكان مصرف لبنان كمؤسسة عامّة، في المطالبة بدين مزعوم مستحق لصالحه على الدولة اللبنانيّة. وبهذا الشكل، تخطّت المصارف وضعيّتها القانونيّة كقطاع خاص، يعمل تحت رقابة وإشراف المصرف المركزي، لتعامل المصرف المركزي كقاصر وتأخذ مكانه في مقاضاة الدولة. وفي مقابل تمسّكها بنص هذا القانون الخاص، لتفرض على الدولة السداد الفوري لهذا المبلغ، تتجاهل المصارف النصوص القانونيّة التي ترعى علاقتها بالمودعين، والتي كانت تفرض محاسبة كبار المساهمين ومجالس الإدارة فيها منذ بدء الأزمة.