هكذا يمضي اللبنانيون ساعاتهم على أبواب المصارف

طوّع اللبنانيون على مشهد الزحمة اليومية المتكرّرة على أبواب المصارف وأمام صرّافاتها الآلية، بحيث بات القليلون يعبّرون عن استهجانهم الذلّ الذي تعكسه صفوفهم، مع أنه يكاد يكون نسخة شبيهة لمشهد الزحمة التي شهدتها محطات البنزين قبل رفع الدعم عنه كلّياً.

وكأنّها ضريبة يجب أن يدفعها كلّ من رغب في الإستفادة من تعاميم مصرف لبنان، غير مكترثين للغايات الأساسية من هذه التعاميم في لجم تدهور العملة الوطنية، إنما يعتبرونها فرصة تحقّق مكاسب آنية سريعة لهم. في وقت يرى فيها صرّافو السوق السوداء فرصة لتعويم مؤسساتهم بالدولار، حيث يؤكد صرّافون في منطقة زحلة أنهم لاحظوا خلال الساعات الماضية تزايداً في الطلب عليه على رغم ارتفاع سعره الأسود بشكل كبير.

في دردشة مع أحد الصرّافين، يشير الى أنه تمكّن صباح أمس الأول، وخلال نصف ساعة فقط، من شراء 15 ألف دولار من الأفراد، وهؤلاء عرضوا مبالغ تراوحت بين الـ300 و330 دولاراً، وهو السقف الذي حدّدته المصارف بمعظمها لاستفادة أي مواطن من عملية استبدال ليراته اللبنانية بدولارات وفق سعر صيرفة.

ويؤكد الصرّافون في المقابل أنّ نشاط حركة السوق السوداء بات يعتمد بشكل أساسي على هذه الدولارات، التي يسارع المواطنون إلى استبدالها، مبتعدين عن مخاطر أي خضّة مفاجئة في السوق، كتلك التي ترافقت مع تراجع سعر الصرف من 41 ألف ليرة الى 35 ألف ليرة قبل نحو أسبوعين.

في المقابل، لا يتردّد من لا يستفيد من المواطنين من تعاميم مصرف لبنان، أو يحاول أقله الإستفادة منها، في وصف ما يجري أمام المصارف بـ»المسخرة». ويتّهم بعضهم المتهافتين على «دولار صيرفة» بأنهم شركاء في الفوضى، وفي حرمان المودعين من أموالهم، خصوصاً أن التعميم يتكارم على من لا يملكون ودائع، بمقابل حجب الدولارات عن مودعيها، وهذا برأيهم شبيه تماماً لما حصل في عملية الدعم التي لم تذهب إلّا لجيوب بعض المستفيدين.

الصفوف… ثلاث فئات

وجهة النظر هذه قد تكون صحيحة إذا تمّ الإكتفاء بمراقبة الوضع من بعيد. ولكن مع الإستماع الى المستفيدين من هذه التعاميم، يتبيّن أنّ لديهم أيضا أسبابهم وظروفهم التي تجعلهم يتحمّلون الذلّ، في سبيل بضعة آلاف من الليرات أو مليوني ليرة كحدّ أقصى، قد لا تكفي أحياناً ثمناً لتدفئة منزل لأسبوع واحد.

عملياً، يتوزّع المحتشدون أمام أي مصرف إلى ثلاث فئات:

فئة ترغب في الإستفادة من تعاميم مصرف لبنان، فتنتظر على مدخل المصرف الى أن يسمح لها بدخوله لإتمام المعاملات التي تسمح لها باستخدام الصرّاف الآلي. وأحياناً قد يطول إنتظار هؤلاء على باب المصرف لنحو ساعة أو ساعتين، حتى لو ضُرب لهم موعد مسبق للحضور. أما الفئة الثانية، فأصحابها أتمّوا المعاملات ويملكون الليرة اللبنانية ويريدون تحويلها الى دولار على سعر صيرفة. ولهذه الفئة مئة حكاية. إذ يحضر هؤلاء الى معظم المصارف منذ السابعة صباحاً حتى يتسنّى لهم حجز دورهم أمام الصرّاف الآلي، ويستعدّون لفرضية التغيّب عن العمل إذا كانوا موظفين. من كرّر التجربة أكثر من مرة، صار يأتي مع صديق يريد إتمام معاملة مشابهة، لعلمه أنّه سيحتاج لمن يعينه على حرق ساعات الإنتظار الطويلة. وقد حاول بعضهم الأخذ بنصيحة الإيداع في فترة المساء، إلا أنهم إكتشفوا أن الصرّاف الآلي غالباً ما يكون معطّلاً في معظم المصارف خارج ساعات العمل، ما يكبّدهم نفقات الإنتقال من دون طائل. وفي فترة الإنتظار الطويل لا بد أن تتوتر الأجواء أحياناً، فيصطدم هؤلاء بعضهم ببعض، خصوصاً متى حاول أحدهم أن يتجاوز دوره، أو أن يمرّر أكثر من معاملة لأكثر من شخص على الصرّاف، مع احتمال تعطّله في أي وقت.

حينها ترتفع الصرخة ولا يخلو الأمر من عراك بالأيدي والشتائم قبل أن يعمل المنتظرون على تهدئة الوضع خوفاً من أن يخسروا فرصتهم في الوصول الى الصرّاف الآلي. وأحيانا لا يملك البعض خبرة إدارة العملية أو استخدام الصرّاف للإيداع، فينفد صبر من حوله من طول انتظارهم، إلى أن يبدي أحدهم إستعداداً لمساعدته، وطبعاً ليس حبّاً به، لكن تقصيراً لفترة انتظاره. وهكذا تولد الأحاديث الهامشية السريعة بين الناس، يهزأون من أحوالهم وعلى أحوال المصارف، يضحكون، يصرخون، يخالفون، يتضايقون، ينصحون، يتشاركون الهموم، وكل ذلك وعيونهم شاخصة على الصراف الآلي خوفاً من تعطّله في أي لحظة. وإذا كان معظم من يحاولون الإستفادة من تعاميم مصرف لبنان هم من موظفي الدولة الحاليين والمتقاعدين، أو العاملين بالأسلاك الأمنية والعسكرية، فلا تمييز في خط الإنتظار بين عسكري وضابط، فجميعهم هنا متساوون في محاولة تحسين قيمة رواتبهم.

سألنا البعض إذا كان الربح المحقق يستحق ساعات الإنتظار الطويلة التي يمضيها هؤلاء الى أن يصلوا للصرّاف الآلي، فكان الجواب أنه لا يستحقّ، ولكنّه يسدّ ولو جزءاً من العجز الذي يتسبّب به إنهيار سعر العملة اللبنانية. وأعرب البعض الآخر عن قناعته بأنّ التعاميم الموضوعة لمصلحة استفادة كل المواطنين بسحوبات الدولار، ليست سوى غطاء لعمليات تجارية كبيرة يستفيد منها كبار المحظيين، ولذلك رفض هؤلاء أن يتّهموا بأنهم يستفيدون من الودائع المحجوبة عن أصحابها، ولسان حالهم «حاسبوا الحرامية الكبار الذين أوصلونا الى هذا الواقع».

في المقابل، يتبين أنّ ليس كلّ من يتقدّمون للإستفادة من دولار صيرفة يملكون المبلغ الذي يفوق الـ9 ملايين ليرة لشراء الـ300 دولار. ومع أنه باستطاعتهم سحب مبلغ أدنى وفقاً لإمكانياتهم، فإنهم يعتبرون أنّ ساعات الإنتظار حينها لن تكون مجدية. ولذلك يلجأ البعض الى استدانة المبلغ المطلوب وأحياناً من صراف السوق السوداء تحديداً، الى أن تنجز العملية في مرحلتها الثالثة، وهي مرحلة سحب إيداع الليرة اللبنانية بالدولار الأميركي.

ونظراً لطول الساعات التي تستغرقها عملية الإيداع، لا يتمكن كثيرون من إنجاز عملية كاملة في يوم واحد، وخصوصاً في المصارف التي حدّدت أوقات الإستفادة من تعاميم صيرفة بساعات محدودة. ولذلك يعود هؤلاء إلى المصرف في اليوم التالي، مشكلين بذلك الفئة الثالثة، لتطول ساعات انتظارهم مجدّداً في صف طويل موازٍ لصف المودعين، يحمل قصص التوتر والمناوشات والتلاسن والأحاديث الجانبية نفسها، مضافاً إليها أمل الحصول على العملة الخضراء، التي سرعان ما يبدّدها غلاء أسعار كل شيء في لبنان.

مصدرنداء الوطن - لوسي بارسخيان
المادة السابقةعقلاء يطالبون بالإصلاح والأزمة تفلت من عقالها
المقالة القادمةشركات التدقيق الدولية تتجنّب مصارف لبنان