تستمر الحكومة في اعتماد سياسة المماطلة والتسويف لإمرار الوقت قبل تصحيح أوضاع موظفي القطاع العام. فحتى اللحظة، لم تظهر مؤشرات عن الشروع في دراسة سلسلة رتب ورواتب، رغم الوعد الحكومي في آذار الماضي بتقديمها في حزيران المقبل. في هذا الوقت، يستمرّ الغلاء والتضخّم في الأسعار والزيادة في الضرائب وسط غياب التقديمات الصحية والاجتماعية والخدماتية، فيما يحصل الموظفون على بدلات تمثّل بديلاً من الرواتب وتجعلهم رهينة السلطة.
التراجع الكبير في مداخيل العاملين في القطاع العام أضحى فاضحاً. يخسر المتقاعدون 85% من القوّة الشرائية لرواتبهم، رغم حصولهم على مساعدات وبدلات بما يوازي 9 رواتب. وهذا الأمر لا يسري على كل الموظفين بشكل متساوٍ، بل اعتمدت الحكومة التمييز بين العاملين في مختلف القطاعات العامة، ما خلق تفاوتات هائلة بينهم. فضّلت السلطة السياسية دعم قطاعات محدّدة من الموظفين دون أخرى. وأتى هذا الدعم على شكل رشى؛ إذ أغدقت السلطة السياسية المال على القضاة عبر دعم صندوق التعاضد الخاص بهم، ما أدى إلى حصول القاضي على مدخول إضافي شهري وصل إلى حدود 1650 دولاراً عدا راتبه. كما دعمت صندوق تعاضد أساتذة الجامعة اللبنانية فحصّلوا 1000 دولار إضافي كلّ شهر منه، وراتباً مضاعفاً 7 مرّات زائداً 650 دولاراً من وزارة التربية. وصرفت الحكومة حوافز بالعملة الأجنبية بقيمة 300 دولار شهرياً لأفراد السلك التعليمي ما قبل الجامعي. إلا أنّ التقديمات لم تجبر الكسر في الرواتب مقارنةً مع ما كانت عليه عام 2019. مثلاً تراجعت قيمة رواتب القضاة بنسبة 41%، فيما خسر الموظفون الإداريون 55% من قيمة التقديمات رغم الزيادات التي حصلوا عليها بحسب المرسوم 13020، وفقد أساتذة التعليم الرسمي ما قبل الجامعي 59% من قيمة رواتبهم رغم تقاضيهم 300 دولار شهرياً إلى جانب رواتبهم.
بالإضافة إلى دور المتفرج على الانهيار، قامت الحكومة بدور المتواطئ، إن لم نقل المتآمر، على القطاع العام ومؤسساته من خلال التقتير في الموازنات التشغيلية لمراكزها، وعدم توفير الحد الأدنى ممّا تتطلبه للقيام بدورها، فكانت ضنينة على تنفيذ توجيهات البنك الدولي لإفراغ القطاع العام من العاملين فيه، وصولاً إلى خصخصته. وهذا ما يحصل الآن بشكل غير مباشر عبر منع الدعم عن المدارس الرسمية من جهة، وزيادة قيمة منح التعليم لموظفي الدولة عن أولادهم من جهة ثانية، ما يساعد الموظف في القطاع العام على تحمل أكلاف المدارس الخاصة والابتعاد عن التعليم الرسمي، إذ تصل قيمة المنحة إلى حدود ألفَي دولار عن التلميذ في المدارس الخاصة، و3 آلاف دولار للطالب في مرحلة الامتياز الفني، و4 آلاف دولار للجامعات الخاصة، بينما صناديق المدارس والثانويات والمهنيات الرسمية والجامعة اللبنانية فارغة تماماً، وتتّكل على الجمعيات والمنظمات الدولية لدعمها بالمال لشراء القرطاسية وتأمين الكهرباء.
إزاء ذلك، نفّذ العاملون في القطاع العام إضرابات امتدّ بعضها لشهور من دون الوصول إلى النتائج المرجوّة؛ أضيف إلى أساس الراتب، في سابقة لم تلجأ إليها أيّ دولة في العالم، أكثر من 9 أنواع من الزيادات، وبنسب مختلفة: تعويض مؤقت، حوافز، بدل بنزين، بدل مثابرة، بدل ساعات عمل نهارية، بدل ساعات عمل ليلية، تعويضات صناديق التعاضد، مساعدة وزارية، بدل حضور يعطى للموظف لمجرد حضوره إلى مركز العمل. كذلك، ضربت الحكومة وحدة التشريع وخرجت عن النصوص القانونية للمراسيم الناظمة للرواتب عبر إقرار زيادات غير دستورية وغير قانونية وغير عادلة خلقت تمايزات فاضحة بين القطاعات ككل، وداخل كل قطاع. كما نفّذت أوامر صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بحذافيرها عبر خفض المعاش التقاعدي بما يخرق نظام التقاعد المحدّد بموجب قانون الموظفين 112/1959. وأقرّت زيادات استنسابية، فأُعطيَ موظفو المالية وبعض الجهات الرقابية حوافز إضافية دون غيرهم من موظفي الإدارة العامة، ما ضاعف الفروقات بين قطاع وآخر لأكثر من الضعفين، ومن جهة ثانية أُبقيت قطاعات أخرى في أدنى السلّم الاجتماعي وفي مقدّمهم المتقاعدون المدنيّون والعسكريون.
الشارع هو الحل
جميع الهيئات الإدارية في روابط موظفي القطاع العام ومتقاعديه مدعوّة إلى عقد جمعيات عمومية بصورة عاجلة، وقبل تحوّل سلسلة الرتب والرواتب التي تعدّ في مجلس الخدمة المدنية إلى أمر واقع. وبالتالي، على مجالس المندوبين والفروع المسارعة إلى الانعقاد لمناقشة وإقرار تنفيذ سلسلة تحركات ضاغطة من إضرابات، واعتصامات، وصولاً إلى العودة إلى الإضراب المفتوح وذلك رفضاً واستنكاراً لسياسة الإفقار المتعمّدة والمماطلة والتسويف والانقضاض على الحقوق من جهة، وضماناً لإلغاء بدع الزيادات الوهمية واستبدالها بسلسلة رتب ورواتب جديدة وعادلة ومتوازنة من جهة ثانية.