تسعة أيّام مرّت على الموعد المفترض لنشر الميزانيّة نصف الشهريّة، التي اعتاد مصرف لبنان الإفصاح عنها في منتصف وبداية كل شهر، من دون أن ينشر المصرف هذه الميزانيّة حتّى اللحظة. وعلى الموقع الرسمي لمصرف لبنان، ما زالت الميزانيّة التي جرى نشرها في نهاية شهر تموز على حالها، بغياب أي تحديث للبيانات التي جرى الإعلان عنها على الموقع منذ ذلك الوقت.
بصورة أوضح: منذ أن غادر رياض سلامة منصبه في بداية هذا الشهر، لم تنشر هذه الميزانيّة نصف الشهريّة، بالرغم من مرور موعدها الاسبوع الماضي، وهو ما يعطي هذه الخطوة رمزية خاصّة لناحية توجهات المجلس المركزي للمصرف حاليًا. مع الإشارة إلى أنّ المصرف لم يُخلف في السابق استحقاق أو موعد تحديث الميزانيّة نصف الشهريّة، منذ البدء بنشرها على موقع المصرف.
الميزانيّة المشوّهة
للأمانة، ما اعتاد المصرف المركزي على تسميته “ميزانيّة نصف الشهريّة”، طوال ولاية رياض سلامة، لا يستحق بالفعل هذه التسمية، لعدم استيفاء هذا البيان المالي أبسط شروط وقواعد إعداد الميزانيّة.
ما يمكن أن يحتاجه المرء من أرقام ذات مغزى في هذا البيان، الذي لا يتجاوز حجمه نصف الصفحة، هو بضعة بنود فقط لا غير: قيمة الذهب التي يتم تحديثها حسب سعر الأونصة في الأسواق العالميّة، وحجم الموجودات بالعملات الأجنبيّة التي تشير إلى قيمة الاحتياطات بعد شطب قيمة سندات اليوروبوند منها، وحجم السيولة المتداولة ورقيًا في الأسواق بالليرة خارج مصرف لبنان.
أمّا تتبع سائر البنود، فغالبًا ما يشير إلى القواعد المحاسبيّة غير المألوفة، أو عمليّات “التزوير” كما تصفها التحقيقات القضائيّة في لبنان وأوروبا، التي اعتمدها رياض سلامة في الماضي، من دون أن تعطي هذه البنود أي فكرة بخصوص الوضعيّة الماليّة الحقيقيّة للمصرف. وفي النتيجة، كل ما هو مطلوب من هذه المناورات المحاسبيّة، التي سخرت منها تقارير التدقيق الجنائي والمحاسبي، هو الوصول إلى توازن حجم المطلوبات والرساميل مع حجم الموجودات، من دون أن تعكس الأرقام نتيجة أخرى ذات مغزى أو معنى مالي.
خذ على سبيل المثال بند ديون القطاع العام لحساب مصرف لبنان: في ليلةٍ ظلماء في منتصف شهر شباط الماضي، تم استبدال قيمة هذا البند من “صفر” إلى 16.5 مليار دولار، من دون أي تفسير أو مبرّر، باستثناء جملة صغيرة تقول أن سلامة “تفاهم” مع وزارة الماليّة عام 2007 على إجراء عجيب يحتسب بموجبه الدولارات التي يبيعها للقطاع العام، مقابل ليرات نقديّة، كديون على الدولة. بهذا المعنى، استفاق سلامة كالتاجر المفلس عام 2023، فعاد إلى الوراء 16 سنة، واحتسب كل عمليّات القطع التي جرت لحساب الدولة كديون عليها.
ما معنى الرقم السابق في بند الديون المستحقة على الدولة، أي “صفر”؟ وما معنى الرقم الجديد الذي يقارب حجمه 83% من حجم الناتج المحلّي، أي 16.5 مليار دولار؟ ما هذه الميزانيّة نصف الشهريّة العجيبة، التي تقفز فيها الأرقام بهذا الشكل المريب؟ وأي خلاصات ماليّة يمكن أن يستفيد منها المرء، إزاء هذه البهلوانيّات الماليّة الغريبة؟
في قسم الموجودات، يعثر المرء على بند الموجودات الأخرى، أي الموجودات الوهميّة الشهيرة التي اعتاد سلامة على تضخيمها من دون أي سند محاسبي، لإخفاء ما كان يتراكم من خسائر في موجوداته الفعليّة والحقيقيّة. وما نقوله هنا ليس اتهامًا، بل حقيقة كشفت عنها وأكّدت عليها كل تقارير التدقيق المحاسبي والجنائي التي تم إعدادها حتّى اللحظة.
في بداية شباط، كانت قيمة هذه الأصول الوهميّة توازي 49.5% من إجمالي حجم الميزانيّة، ما يشير إلى بلاهة اعتبار هذا التهريج المالي “موازنة” بالفعل. ثم تأخذ الأمور منحى أكثر غرابة، بعدما ازدادت قيمة هذا البند بشكل طفيف في منتصف شهر شباط، في حين أن نسبته من إجمالي الميزانيّة انخفضت إلى 10%، بمجرّد اعتماد سعر صرف جديد لإعداد الموازنة (تم اعتماد 15 ألف ليرة للدولار بدل 1507.5 ليرة للدولار). هل هناك من يستطيع أن يقرأ هذه الميزانيّة وأرقامها بجديّة، بعد كل هذا التحايل في النسب والأرقام؟
ثم ينتفخ، في الفترة نفسها، بند جديد، إسمه “إعادة التقييم”، حيث ترتفع قيمة هذا البند من “صفر” في بداية شهر شباط، إلى 36.5 مليار دولار في منتصف الشهر، بعد اعتماد سعر الصرف الجديد المرتفع. الزيادة في قيمة هذا البند، الذي يعبّر بدوره عن موجودات وهميّة كذلك، جاءت من دون أي شرح أو تفسير، لتنتفخ معه إجمالي أصول الميزانيّة.
ومن هذه الزاوية، يمكن فهم انخفاض نسبة الموجودات الأخرى (الوهميّة أيضًا) من إجمالي حجم الميزانيّة، رغم عدم انخفاض قيمتها، بعدما ارتفع حجم الميزانيّة الإجمالي عند اعتماد سعر الصرف الجديد المرتفع، وبعدما تم ملء خانات “الميزانيّة” بموجودات وهميّة أخرى.
المطلوب من كل هذه المناورة، هو الاستمرار بإخفاء خسائر رياض سلامة. فاعتماد سعر الصرف المرتفع، رفع قيمة إلتزامات مصرف لبنان اتجاه المصارف التجاريّة بالعملة الصعبة، وهو ما فرض على سلامة استحداث موجودات وهميّة جديدة في منتصف شهر شباط، ليتوازى مجددًا حجم الموجودات مع حجم المطلوبات. وهذا ما فرض على سلامة أيضًا استحضار دين الـ16.5 مليار دولار، الذي قيّده كإلتزام على الدولة لصالح مصرف لبنان.
منصوري لا يبصم على الأرقام
قد يشعر القارئ ببعض الضياع، عند قراءة ما ورد أعلاه من شروحات حول بنود إعادة التقييم والموجودات الأخرى وغيرها. في واقع الأمر، لا يحتاج المرء إلى محاولة فهم مغزى هذه التحوّلات في الأرقام، لأنّها لا تعبّر فعلًا عن أي حقيقة ماليّة أو محاسبيّة مفيدة يمكن اكتشافها أو فهمها. في جميع تقارير التدقيق المحاسبي والجنائي تتكرّر الجمل التي تشير إلى أنّ كل هذه الأرقام لم تكن سوى تقديرات وضعها سلامة بنفسه، من دون الاستناد إلى أي قيمة فعليّة يتم التعبير عنها. باختصار، لا يوجد حتّى ما يمكن فهمه، حتّى يحاول القارئ تحليل ما يقرأه.
ربما لكل هذه الأسباب، اختار منصوري التوقّف عن نشر البيان المالي الغريب، الذي لطالما سمّاه رياض سلامة “الميزانيّة نصف الشهريّة لمصرف لبنان”. وربما للسبب نفسه، استعاض منصوري عن الميزانيّة بنشر أرقام الاحتياطات وموجودات الذهب، مقابل الإلتزامات التي تتوجّب على المصرف المركزي على المدى القصير، بالعملة الصعبة. وهذا ما يشير حاليًا إلا أن منصوري يرفض البصم على حسابات رياض سلامة القديمة، عبر استكمال نشر الميزانيّة نصف الشهريّة كما كان يجري سابقًا.
أخيرًا، من المفترض أن يترقّب اللبنانيون الأسس المحاسبيّة البديلة التي سيعتمد عليها منصوري ونوّابه، لاستكمال نشر الميزانيّة على نحو دوري، وبمعايير أكثر شفافيّة. فاستبدال الميزانيّة المشوّهة باللاميزانيّة، أي عدم نشر أي ميزانيّات على الإطلاق، سيكون أسوأ وأقل شفافيّة من آليّات الإفصاح المالي المعتمدة في المرحلة السابقة. بطبيعة الحال، لن ينتظر اللبنانيون أن يتمكن منصوري من إنجاز مهمّة تصحيح الميزانيّة المشوّهة خلال أيّام أو حتّى أسابيع معدودة، لكنّ الشفافيّة تقتضي أن يصارح المجلس المركزي اللبنانيين بوجهته المقبلة، على مستوى الإفصاح المالي في مصرف لبنان.