هل حان خفض سعر صرف الليرة؟

تتسارع وتيرة العنف يومياً داخل المصارف مع ارتفاع منسوب القلق عند المواطنين وانتشار شائعة اتجاه المصارف الى السطو على مدخراتهم بحجة الوطنية و«لبننة» الاقتصاد اللبناني و«ليرنته». وقد بدأت «الليرنة» القسرية بالفعل مع وجود سعرين للصرف، حيث وضعت المصارف سقفاً على سحوبات الدولار وأجبرت المواطن على تحويلها إلى الليرة، على سعر الصرف الرسمي، إذا ما أراد تخطّي هذا السقف.

وما لبث السقف ينخفض وليرنة السحوبات ترتفع على المواطن، بينما يحوّل النافذون ثروات ضخمة إلى الخارج بلا قيود، ما زاد غضب الناس الذين توجّهوا إلى المصارف وطلبوا سحب دولاراتهم ولو بالقوة.

والقطاع المصرفي في لبنان أكبر من أن يفشل (Too Big To Fail) حيث يؤدي سقوطه إن حصل إلى خسارة أموال المودعين وفقدان الدولة مصدر تمويلها وتوقف عمل الشركات وزيادة البطالة والفقر. فما إن «عطس» القطاع المصرفي عام 2019 حتى تسارع انهيار الاقتصاد اللبناني.

لذا طلب مصرف لبنان من المصارف زيادة رأس المال من الدرجة الأولى (Tier One) بنسبة 10% في كانون الأول و10% في حزيران، أي ما يعادل 4 مليارات دولار. وبدلاً من ضخ رأس مال جديد في المصارف (Fresh Capital) يُجلَب من المساهمين الحاليين أو من مساهمين جدد، مثل مصارف خارجية تملك فائضاً في السيولة، تمّ اعتماد سعرين للصرف، ما يسمح للمصارف بتحقيق أرباح من خارج الموازنة (Off-Balance Sheet) ويسهل إعادة رسملتها (Recapitalization) من أموال المودعين.

وقد أدّى وجود سعرين للصرف إلى شح الدولار وانقطاع عدد من المواد المستوردة من الأسواق، كما وألحق الأذى بالتجار الذين يضطرون إلى شراء العملة الصعبة في السوق السوداء وبالمستهلكين الذين يخسرون عند سحب أموالهم؛ كما دفع التفاوت في سعر الصرف إلى تسخير اهتمام الجميع على المضاربة في سوق القطع بدلاً من التركيز على الأعمال الإنتاجية، وفاقم هلع المودعين (Panic) وأحدث أزمة مطلوبات تضاف إلى أزمة الموجودات الناتجة من انكشاف المصارف على الدين العام وتعذّر الدولة اللبنانية عن السداد.

وفي الحقيقة، لم توظف المصارف اللبنانية سوى 12.5% من موجوداتها في سندات الخزينة، بينما أبقت على نحو 59% منها على شكل احتياط لدى مصرف لبنان. ولكن المصرف المركزي أذعن أخيراً في العام 2016 لطلبات السلطة السياسية وراح يدينها احتياط المصارف بفوائد منخفضة بعد أن كان في الماضي مثالاً لتحييد النقد عن السياسة. وقد سمح ذلك للسلطة السياسية بالاستمرار في الإنفاق على مشاريع فرعونية وفائض الموظفين.

أما اليوم، فقد وصلت درجة العنف في المصارف إلى مستوى يفرض توحيد سعر الصرف عبر تخفيض سعر الليرة (Devaluation) أي رفع سعر الدولار الرسمي في المصارف ليتناسب مع سعر السوق، ما يطمئن المودعين الى قيمة ودائعهم ويوقف هلعهم ويفرمل أزمة مطلوبات المصارف. ويسمح هذا الإجراء بمعالجة مشكلة عجز ميزان المدفوعات وبتخفيض كلفة الإنتاج المحلي، وبتحفيز التصدير والأعمال الإنتاجية.

أما من ناحية موجودات المصارف، فيبدأ الحل مع التوقف الكامل للسلطات النقدية عن تمويل الحكومة، ما يلزم الأخيرة بإجراء الإصلاحات المناسبة لخفض نفقاتها. وهنا أقترح جدياً التفكير في إلغاء المصرف المركزي واستبداله بدولرة كاملة للاقتصاد اللبناني (Full Dollarization) أو اعتماد نظام مجلس النقد (Currency Board) الذي يضمن ثبات سعر الصرف ويحمي السلطات النقدية من التدخّل السياسي وطلب التمويل.

ومع دخول لبنان مرحلة انكماش اقتصادي عام 2019 وتسجيل معدل نمو بنسبة 1-%، تتسارع وتيرة إقفال المحال والشركات وتسريح العمال. ونتوقع بلوغ الانكماش في 2020 نسبة 3-%، ما يعني أنّ التدهور في هذه السنة سيكون بثلاثة أضعاف ما شهدناه في العام الماضي، وأنّ الشعب اللبناني متجّه الى خسارة أعماله ووظائفه. وعليه، لم يعد ممكناً للحكومة المقبلة إنقاذ مداخيل اللبنانيين من الانهيار الاقتصادي، ولكنها تملك خيار المحافظة على قيمة ودائعهم عبر خفض سعر الصرف الرسمي، خصوصاً أنّ نسبة الدولرة ترتفع إلى 75%.

واليوم، بات لبنان يعتمد نظاماً مصرفياً اشتراكياً يقيّد الشعب ويُفقِره بينما يستفيد النافذون من نظام ليبرالي حر يحمي مدخراتهم ويثريهم. فهل ستفرض الحكومة المقبلة النظام السيئ على الجميع من خلال إقرار قانون ضوابط رأس المال (capital control)، أم أنّها ستعمّم حرّية تحويل الأموال بعد خفض سعر صرف الليرة؟

مصدرد. باتريك المارديني - الجمهورية
المادة السابقةمحاسبة المرتكبين واستعادة الأموال المنهوبة… “حلم” واقعيّ
المقالة القادمة“الاعتداءات” التي تتعرّض لها المصارف تضرّ بمصالح الناس