هل نترقّب صدمة مالية جديدة أم نتعلّم من دروس الماضي؟

فصلٌ جديد من فصول التوترات الاقتصادية يُكتب في زمن الحروب التجارية والعقوبات، ويحمل كما يبدو توقيع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي يستخدم صفحاته على وسائل التواصل الاجتماعي، وتحديدًا منصّته الخاصة “تروث سوشيال”، لبثّ الرسائل وتوجيه الحرب التي يدفع ثمنها الاقتصاد العالمي.

تطوّرت الأزمة بشكل أوسع بعد الاجتماع الاستثنائي الذي عقده مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين في ألاسكا، منتصف أغسطس الماضي. اللقاء الذي خرج منه ترامب محرجًا، ملوحًا بشعارات صعبة التحقيق، قابلته عزيمة واستمرار روسيّ بالحرب ضد أوكرانيا وبرسائل الكرِملين غير الآبهة بتهديدات تشديد العقوبات.

وتخضع روسيا حاليًا لأكبر عدد من العقوبات في التاريخ، لكن في نظر ترامب هذه العقوبات غير كافية، وهو ماضٍ بتشديد الضغط على الدول الأوروبية لفرض مزيد من العقوبات على موسكو. كما أنّه أعرب أخيرًا عن شعوره بخيبة أمل كبيرة، على حدّ وصفه، تجاه الرئيس الروسي الذي لم ينه الحرب في أوكرانيا بعد.

أوروبا ساحة صراعات سياسية واقتصادية

يرى الرئيس الأميركي أنه ما دامت هناك دول أوروبية تشتري النفط الروسي، والمقصود هنا هنغاريا وسلوفاكيا، فهي تُساهم في تمويل الحرب على أوكرانيا وتعزيز مواقف بوتين. وبحسب بيانات صادرة عن مركز دراسة الديمقراطية في بلغاريا، ومركز أبحـاث الطاقـة والهـواء النقـي في فنلندا، فإنّ بودابست وبراتيسلافا دفعتا نحو 5 مليارات يورو مقابل مشتريات النفط الروسي منذ بداية حرب أوكرانيا.

وإذ تعتبرُ كلّ من هنغاريا وسلوفاكيا أنّ أمن الطاقة لديها مرتبط أساساً بالنفط والغاز الروسيّين، لا بدّ من الإشارة إلى الصعوبات التي تواجه الدول الأوروبية في عملية تخلّيها عن مصار الطاقة الروسيّة والثمن الذي يدفعه الاقتصاد الأوروبي مقابل هذه القرارات التي جاءت فيما لم تكن الدول مستعدة لها، ولم يكن البديل متاحًا بالسهولة والكلفة نفسيهما. وقد ظهرت التداعيات الاقتصادية لخسارة النفط والغاز الروسيّ في فاتورة الطاقة الباهظة وتفاقم أزمات التضخم التي تعاني منها أوروبا منذ جائحة كورونا، إضافة إلى الضغوط الكبيرة على القطاع الصناعي والشركات الأوروبية.

يُترجَم كلّ ذلك في سنوات متتالية من ضعف النمو الاقتصادي، وتراجع موارد الحكومات، واضطرارها إلى خفض الإنفاق، الأمر الذي يستفزّ الشارع الأوروبي ويُنتج حركاتٍ وتحرّكات شعبية مناهضة للحكومات، ويؤدي إلى تشرذم أعمق في السياسة بين الأحزاب. من هنا يُطرح السؤال حول تداعيات انهيار أركان رئيسية من أركان الاتحاد الأوروبي، في أكثر الدول المنكشفة اليوم على الأزمات السياسية والاقتصادية والمالية، فإن تزعزعت متانة الاتحاد الأوروبي، ستكون الفاتورة كبيرة جدًا على الاقتصاد العالمي والاستثمارات في القارة العجوز.

الحزمة التاسعة عشرة من العقوبات

لقد توافقت واشنطن وبروكسيل على ضرورة ضرب موسكو بحزمة عقوبات جديدة، لكنّ تنفيذ تلك الضربة مؤجل حتى الساعة، في انتظار قرار تنفيذي لم يُكشف بعد عن موعد صدوره. إلّا أنّ رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين أشارت إلى أنّ الحزمة الجديدة المرتقبة ستستهدف صناعة العملات المشفرة وقطاعيّ البنوك والطاقة في روسيا. يُذكر أنّ بروكسيل كانت قد اعتمدت في يونيو الماضي خطة حدّدت فيها مهلة حتى نهاية العام 2027 للتوقف الكامل عن شراء النفط الروسي.

في هذا السياق، تفيد بيانات يوروستات بأنّ واردات الدول الأوروبية من النفط الروسي هبطت بنسبة 89 في المئة منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية في العام 2022 وحتى الربع الثاني من العام الحالي. وفي التفاصيل، وصل حجم واردات النفط الروسية خلال الربع الثاني من 2025 الى 1.75 مليار يورو مقارنة بـ 28.7 مليار يورو في الربع الأول من العام 2021، في حين هبط حجم واردات الغاز الطبيعي من 39 مليار يورو الى 13 مليار يورو.

التقارب الصيني الروسي والضغط الأميركي

في ظلّ التضعضع الأوروبي، يمارس ترامب مزيدًا من الضغوط على دول حلف شمال الأطلسي لتوقف بشكل كامل أيّ واردات نفطية من روسيا، كما يتحرك بحزم أكبر بعد التطورات في مجال التقارب الصيني الروسي وحتى التحالف مع قوى اقتصادية كبرى كالهند، إذ تمهّد تلك التحالفات ولو على المدى البعيد، لكسر الهيمنة الأميركية المالية والسياسية والعسكرية حول العالم.

وتستفزّ التحالفات القديمة الجديدة المحور الغربي، لذا يستغلّ ترامب اللحظة ليطالب الدول الأوروبية بفرض رسوم جمركية على المنتجات الصينية، ليوسّع هجماته في الحرب التجارية عبر أذرع جديدة ومتنوّعة. ويرى ترامب أنّ على الاتّحاد الاوروبي فرض رسوم جمركية بين 50 و100 في المئة على المنتجات الصينية، حيث إنّ الصين من أبرز مستوردي النفط الروسي.

تجدر الإشارة كذلك إلى أنّ الاقتصاد الروسي، ورغم أزماته ومحاولة عزله عن العالم، تمكّن من عبور السنوات القليلة الماضية بأقلّ الخسائر، حيث عزز الكرِملين شبكة علاقاته مع الصين والهند لتشكّل الدول الثلاث حلفًا استثنائيًا يُقلق بشكل واضح القادة الغربيين ويدفع ترامب لتشديد لهجته تجاه الدول الأوروبية لاتخاذ خطوات أكثر صرامة ضدّ موسكو.

ولا تقتصر المعركة بالنسبة إلى الدول الأوروبية والعالم على النفط والغاز، فروسيا مصدر مهمّ للأسمدة والمواد الزراعية، ومورّد رئيسي للقمح والحبوب، ومصدر مهم جدًا للمعادن الصناعية، التي تترجمُ خسارتها بالنسبة إلى الدول الاوروبية في مزيد من الضغوط الاقتصادية على القطاعات الصناعية والأسعار وعمليات الإنتاج، ما يضع الشركات الأوروبية في أزمات مالية ويعطي الشركات الأميركية مجالًا أوسع لتحقيق الأرباح.

ما الذي يُحاك في القنوات الدبلوماسية؟

فيما يحضّ ترامب الدول الأوروبية على معاقبة الصين وتشديد الخناق على روسيا، شهدنا عودة قنوات التواصل بين واشنطن وبكين بشكل لافت، فقد أعلن الرئيس الأميركي أنه ونظيره الصيني قد يتوصّلان قريبًا إلى كثير من الحلول في القضايا العالقة، وأنّهما توافقا على أن يلتقيا في بداية العام المقبل خلال قمة “أبيك” في كوريا الجنوبية. ويأتي ذلك بعد أن تابعنا عودة الوفود الممثلة لأكبر اقتصادين في العالم للجلوس على طاولة المفاوضات قبل أسابيع في العاصمة الإسبانية مدريد، حيث طُرحت القضايا العالقة بين الطرفين الأميركي والصيني وعلى رأسها الملفات التجارية. لكنّ هذه المشاورات، الدبلوماسية في الظاهر، تعكس في باطنها الخلافات السياسية والأزمات العسكرية والقومية والمصالح الاقتصادية الدولية التي يتنازع عليها الطرفان.

الحصان الرابح في الأسواق

جانبٌ آخر من المخاطر الاقتصادية الراهنة سلّط عليه الضوء جيروم باول، رئيس مجلس الاحتياطي الفدرالي، بعد إعلان البنك عن خفض أسعار الفائدة خلال الأسبوع الماضي. فقد شدّد باول على المخاطر المحدقة بالاقتصاد الأميركي وألقى باللوم على سياسات الرئيس الأميركي، لا سيما تلك المتعلقة بالرسوم الجمركية، وسياسات وقوانين الهجرة التي تنعكس بشكل كبير على أسواق العمل والتراجع الملحوظ بالطلب على الوظائف في الولايات المتحدة.

ويرى الفدرالي أن المخاطر التضخمية قد تستمرّ لفترة أطول، ما يشكّل تحديًا مهمًا أمام البنك. ومن المؤشرات المقلقة كذلك في الاقتصاد الأميركي، ارتفاع عوائد السندات طويلة الأجل، التي من المرتقب أن تشهد مزيدًا من الارتفاعات في الفترات القادمة، مع استمرار مسار خفض أسعار الفائدة من قبل الاحتياطي الفدرالي، ومع ارتفاع حجم الدين الأميركي إلى مستويات خطرة.

من هنا، تبقى الأصول الاستثمارية الآمنة، وعلى رأسها الذهب، الحصان الرابح في ظلّ ما تشهده الأسواق، علمًا أنها لا تعكسُ حتى الآن التسعير الفعلي لكلّ تلك المخاطر، وكأنّ العالم لا يتعلّم بسهولة من دروس الماضي أو كأنه ينتظر حدوث صدمة مالية جديدة ليصدّق أنّ الخطر كان حقيقيًا.

مصدرالمدن - رمزا زخريا
المادة السابقةاقتراح بتعويض المودعين بالليرة… الدولار بـ18 ألفاً
المقالة القادمةالتدقيق الجنائي في «الاعتماد المصرفي» 3: أسلوب منهجي في إخفاء الأثر المالي