خلفت أزمة كورونا واقعا مؤلما زاد من معاناة الاقتصاد البريطاني والتي بدأت عقب قرار الانسحاب من الاتحاد الأوروبي “البريكست” في عام 2016، حيث تراجع الناتج المحلي الإجمالي بصورة مضطردة في هذا العام، ليفقد 500 مليون جنيه إسترليني، وتزايد الفقد إلى 22 مليارا عام 2017، ثم قفز إلى 132.8 مليار عام 2019، بخلاف التراجع المتوقع لهذا الناتج في العام الحالي بسبب أزمة كورونا والذي قدرته المؤسسات الدولية بنحو 203 مليارات جنيه.
وسجلت المملكة المتحدة نموًا سلبيًا في الربع الثاني من العام الحالي، حيث انكمش الاقتصاد البريطاني بنسبة 2.2%، وهي النسبة التي تزيد عن التقدير الأولي البالغ 2% فقط، وهو الأمر الذي وصفه مراقبون بكونه أسوأ انخفاض فصلي منذ عام 1979، بما يعكس الظروف الاقتصادية القاسية التي تجتاح الاقتصادات الرئيسية في العالم ومن بينها البريطاني.
وطبقا لتوقعات سابقة لبنك إنكلترا المركزي، فإنه من المتوقع انخفاض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 14% في عام 2020 ككل، مدفوعًا بانخفاض بنسبة 25% في الربع الثاني، وأن هذا سيكون أكبر انخفاض سنوي منذ عام 1706، وفقًا لبيانات البنك التاريخية.
وفي إطار مواجهة تداعيات هذه الأزمة جاءت تصريحات رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون قبل أيام والتي قال فيها إن “أزمة فيروس كورونا تتطلّب استجابة اقتصادية كبرى أشبه بالخطة التي وضعها الرئيس الأميركي الأسبق فرانكلين روزفلت لتحفيز الاقتصاد إبان حقبة الكساد الكبير”، وأن “ما سنفعله خلال الأشهر المقبلة هو مضاعفة برنامجنا الأصلي الذي كان يركّز على الاستثمارات لصالح البنى التحتية والتعليم والتكنولوجيا لتوحيد البلاد”.
وكانت الحكومة البريطانية قد أعلنت بعض ملامح هذا البرنامج، قائلة إنه يشمل خطة لإعادة إعمار المدارس بقيمة مليار جنيه إسترليني (1,1 مليار يورو) ويبدأ في 2020-2021 ويتعلق بخمسين مشروعا في مرحلته الأولى.
مما يدلل على عمق الأزمة الاقتصادية البريطانية قرار البنك المركزي الاستمرار في برنامج شراء السندات الحكومية الحالي والممولة من احتياطيات البنك بقيمة 200 مليار جنيه، وعملية شراء سندات الشركات غير المالية من الدرجة الاستثمارية، والموافقة على إضافة 100 مليار جنيه أخرى إلى البرنامج لمكافحة تداعيات كورونا، ليصل إجمالي شراء الأصول إلى 745 مليار إسترليني.
كما ثبت بنك إنكلترا معدل الفائدة الرئيسي من دون تغيير، عند مستوى قياسي متدن 0.1% في قرار جاء بالإجماع، وذلك بعد قراراته السابقة بخفض المعدل مرتين متتاليتين منذ بداية أزمة كورونا، الأمر الذي يشير إلى السياسة التوسعية التي تنتهجها السياسة النقدية خلال هذه المرحلة.
ورغم استقرار معدل البطالة عند 3.9% على مدار الأشهر الثلاثة الماضية وحتى إبريل الماضي، إلا أن الأرقام من واقع البيانات الضريبية مؤخرا تشير إلى هبوط عدد الأشخاص على قوائم أجور الشركات البريطانية بأكثر من 612 ألفاً في إبريل ومايو بانخفاض 2.1% مقارنة بشهر مارس، وهو ما يعد الوتيرة الأعلى في تقلص فرص العمل منذ بداية الأزمة، كما تقلصت فرص العمل بأسرع وتيرة منذ أن بدأ المكتب حسابها في 2001، إذ انخفضت بمقدار 342 ألفا إلى 476 ألف فرصة عمل فقط.
ويوضح ذلك أن استقرار معدل البطالة خلال الفترة الماضية يعود بشكل كبير إلى برنامج الحكومة للاحتفاظ بالوظائف، مما أدى إلى عدم الزيادة في عدد الأشخاص المصنفين كعاطلين، إذ لم يكن بمقدورهم البحث عن عمل في ظل الإغلاق، وطبقا لسيناريو التوقعات الاقتصادية لبنك إنكلترا فإنه من المتوقع أن ترتفع نسبة البطالة إلى 8% عام 2020، ثم تعاود الانخفاض بعد ذلك إلى7% عام 2021 و4% عام 2022.
وكانت خطط المملكة المتحدة لمواجهة أزمة الإغلاق قد ألزمت أصحاب الأعمال بتغطية ما بين 20 و30% من أجور العاملين الذين تم منحهم إجازة، وذلك لتخفيف العبء الكبير لأزمة الفيروس على المالية العامة للحكومة، كما ألزمتهم أيضا بتغطية تكلفة اشتراكات التأمينات، بمتوسط خمسة في المئة من الأجور.
ومددت المملكة المتحدة في 12 مايو الفائت ولمدة أربعة أشهر العمل ببرنامجها للحفاظ على الوظائف، كما أبلغت أصحاب الأعمال بأنه سيكون عليهم المساعدة في الوفاء بتكلفته الضخمة ابتداء من أغسطس.
والسؤال الآن حول جدوى تلك السياسات على مستقبل الاقتصاد البريطاني الذي يواجه عاما صعبا، مع التفاؤل بإمكانية التعافي المتدرج بداية من العام المقبل، والحقيقة أنه رغم صعوبة الإجابة على هذا التساؤل فإن بوادر التحسن في بعض المؤشرات الشهرية، قد تدفع إلى بعض التفاؤل الحذر، فعلى سبيل المثال فقد تحسن مؤشر مديري المشتريات للقطاع الصناعي ليصعد إلى 50.1، فوق خط 50.0 مباشرةً، والذي يفصل الانكماش عن التوسع. كما جاء مؤشر مديري المشتريات للخدمات النهائية عند 47.1، وهو رقم تحسن كثيرًا عن القراءة السابقة عند 29.0 نقطة.
ورغم هذا التحسن الملحوظ للمؤشر في قطاع الخدمات إلا أنه يجب الإشارة إلى أن مؤشر مديري المشتريات لقطاع الخدمات في بريطانيا لا يشمل شركات التجزئة التي تلقت ضربة قوية منذ إغلاق المتاجر أثر تطبيق إجراءات العزل العام لاحتواء فيروس كورونا في 23 مارس الماضي، وكذلك لا يشمل أصحاب الأعمال الحرة.
كما أن توقعات التحسن جاءت بعد نصائح متوالية من الإدارة الحكومية للبنوك بالاستمرار في الإقراض لدعم الأسر والشركات، لتجنب مواجهة نتائج أسوأ للاقتصاد ككل، مما قد يؤدي بدوره إلى خسائر ائتمانية أكبر وإضعاف مراكز رأس المال للبنوك في المستقبل، وطبقا لأندرو بيلي، محافظ البنك المركزي البريطاني، فإنه إذا فشل المقرضون الرئيسيون في تزويد عملائهم من الشركات بالائتمان اللازم، فإن خسارة تلك البنوك ستقل، لكن في الوقت نفسه فإن المزيد من الشركات ستفشل وسترتفع معدلات البطالة بمقدار 2% أخرى، مما يؤدي في النهاية إلى خسائر أكبر لهذه البنوك.
والتحليل السابق يشير إلى الاعتماد البريطاني على سياسة التيسير الكمي كعماد رئيس لمواجهة التداعيات الاقتصادية السلبية، مع الاعتراف بأنها ستؤدي إلى المزيد من الخسائر للقطاع المصرفي، وأن المأمول هو تعويض هذه الخسائر في المستقبل، لكن ذلك لا يمنع من الحذر البالغ من قدرات هذا القطاع على تحمل الخسائر لا سيما في ظل موجة ثانية متوقعة من الانتشار المكثف للإصابات كما تقول منظمة الصحة العالمية.
ورغم المزج البريطاني بين السياستين المالية والنقدية، إلا أن السياسة المالية لم تؤتِ ثمارها حتى الآن إلا في تعداد وهمي لفقدان الوظائف، ولم تعمل على المواجهة الهيكلية الشاملة، ويبدو أن الحكومة البريطانية تنوي الاعتماد عليها بصورة متدرجة عبر عدة سنوات، خاصة في ظل الإجراءات البيروقراطية المعتادة للمشروعات الممولة من الموازنة العامة، الأمر الذي يؤكد أن تشبيه جونسون لها بسياسة روزفلت فيه الكثير من المبالغة.
وبذلك فإنه من المرجح أن تبقى السياسة النقدية بمفردها تقريبا في المواجهة، وربما يكون ذلك مجديا بافتراض نهاية الفيروس ونجاح إجراءات العودة إلى الحياة الطبيعية، لكنه من المؤكد أن موجة أخري من انتشار الفيروس ستحتاج إلى المزيد من التعويل على السياسة المالية والمزيد من التدخل الحكومي، لحقن النشاط الاقتصادي بالقدر الواجب لتعويض الانكماش المتوقع.