منذ بداية الأزمة الاقتصادية إلى اليوم، ومع انقضاء كلّ سنة ماليّة، يطفو على سطح الاهتمامات الاقتصادية النقاش حول ارتفاع حجم الاستيراد، باعتبار أنّه يقترب سنة بعد أخرى من الاستيراد في سنوات ما قبل الأزمة، فتخرج بعد ذلك نظريّات تبرّر هذا الارتفاع، وتتحدّث عن:
1- الاستيراد لبلدين (لبنان وسوريا).
2- تأقلم القطاع الخاصّ مع الأزمة.
النظريّتان أعلاه تنطلقان من فرضية تفيد بأنّ الأرقام التي تصدر كلّ نهاية سنة عن المديرية العامة للجمارك، بوصفها “الجهة المخوّلة” إحصاء هذه الأرقام وإتاحتها أمام الجمهور، صحيحة ولا تشوبها أيّ شائبة. لكنّ التدقيق بتلك الأرقام يُظهر أنّ ثغرات كثيرة تشوب تلك الأرقام، خصوصاً عند مقارنة الأرقام الصادرة عن الجمارك بتلك الصادرة عن الدول نفسها أو عن الجهات الدولية الاقتصادية المعنيّة، وهو ما يطرح الشكوك حول الشفافية المالية في لبنان.
ما هي شفافيّة الماليّة العامّة؟
بحسب تعريف صندوق النقد الدولي، فإنّ شفافية المالية العامة (وأركانها الشمول والوضوح والموثوقية والحداثة في ما يُنشر من معلومات عن حالة الموارد العامّة) تُمثّل عاملاً حاسماً في تحقيق فعّالية إدارة المالية العامّة والمساءلة عنها. كما أنّ شفافيّة المالية العامة تساعد في “ضمان حصول الحكومات على صورة دقيقة عن مواردها المالية عندما تصنع قراراتها الاقتصادية”، بما في ذلك “التكاليف والمنافع التي تنشأ عن تغيير السياسات والمخاطر المحتملة على مواردها العامّة”.
بمعنى آخر، فإنّ شفافيّة الماليّة العامة “تُتيح للهيئات التشريعية والأسواق والمواطنين المعلومات اللازمة لمساءلة الحكومات”، كما تساعد على “تعزيز مصداقية الخطط الماليّة للبلاد، وتدعيم ثقة الأسواق وتصوّراتها لملاءة الماليّة العامة”.
ماذا تقول الأرقام؟
حاول “أساس” التواصل مع المجلس الأعلى للجمارك، وبَعَثَ بكتاب من أجل الحصول منه على تلك الأرقام وعلى بعض التفاصيل الإضافية من أجل:
1- التأكّد من حجم الاستيراد.
2- معرفة تراتبية شركاء لبنان من بين الدول في العالم وفق أرقام “الجمارك” نفسها.
3- معرفة نوعيّة السلع المستوردة، وليس الأطنان والأثمان بالجملة.
وذلك عملاً بقانون الوصول إلى المعلومات (مرفق الكتاب أدناه). إلاّ أنّ المجلس الأعلى للجمارك لم يتجاوب حتى تاريخ نشر هذا التقرير، مؤكّداً أنّ كلّ المعلومات موجودة على موقع مديرية الجمارك الإلكتروني. مع العلم أنّ الموقع يعرض بيانات كلّ دولة على حدة، وهذا يتطلّب جهداً كبيراً من أجل إحصاء بيانات كلّ الدول أوّلاً، ثمّ ترتيبها من الأكثر إلى الأقلّ تصديراً إلى لبنان، من دون معرفة نوعيّة السلع.
لكن على الرغم من ذلك، حصل “أساس” على الأرقام من مصادر مفتوحة، وتحديداً مواقع إلكترونية لجهات متخصّصة نشرتها أخيراً في أبحاثها ودوريّاتها التي تنقلها عن الجمارك، مثل المصارف المحلّية وغرفة التجارة والصناعة، حيث يُظهر التقرير الاقتصادي لعام 2023 الصادر عن الغرفة أنّ حجم الاستيراد لعام 2023 قد بلغ 17.52 مليار دولار، وهي موزّعة على أكثر من دولة، بينها 25 دولة تُعتبر من بين أهمّ شركاء لبنان التجاريين.
وعليه حاول هذا التقرير معالجة أرقام الاستيراد اللبناني من بين الدول العشر الأُوَل. أمّا تلك الدول وأرقامها فهي على الشكل التالي:
1- الصين: بينما تقول أرقام الجمارك إنّ حجم استيراد لبنان من الصين قد بلغ في عام 2023 نحو 2 مليار دولار، فإنّ بيانات الأمم المتحدة للتجارة الدولية COMTRADE، تؤكّد أنّ صادرات الصين إلى لبنان هي 2.37 مليار دولار، أي بفارق 370 مليون دولار.
2- سويسرا: تكشف الأرقام اللبنانية أنّ قيمة استيرادنا من سويسرا هي 1.75 مليار دولار، في حين أنّ أرقام الجهة الدولية نفسها تحدّد الاستيراد اللبناني من سويسرا بـ1.73 مليار دولار، أي أقلّ بقرابة 20 مليون دولار عن أرقام COMTRADE.
3- اليونان: صادرات اليونان إلينا وفق أرقام الجمارك هي 1.68 مليار دولار، بينما أرقام قاعدة بيانات الأمم المتحدة للتجارة الدولية COMTRADE هي 1.54 مليار دولار، أي أقلّ بـ140 مليون دولار.
4- تركيا: تُظهر أرقام معهد الإحصاءات التركي أنّ صادرات أنقرة إلى لبنان في عام 2023 كانت 1.6 مليار دولار، بينما حجم الاستيراد من تركيا في سجلّات الجمارك اللبنانية بالعام نفسه، قد بلغ 1.36 مليار دولار، أي أكثر بـ240 مليون دولار.
5- إيطاليا: تحدّد الجمارك اللبنانية الاستيراد من إيطاليا بـ1.1 مليار دولار، بينما قاعدة بيانات الأمم المتحدة للتجارة الدولية COMTRADE تقول إنّ الاستيراد اللبناني من إيطاليا هو 1.2 مليار دولار، أي أكثر بـ100 مليون دولار.
6- الولايات المتّحدة: بلغت قيمة صادرات الولايات المتحدة إلى لبنان 541.75 مليون دولار أميركي خلال عام 2023، وذلك وفقاً لقاعدة بيانات الأمم المتحدة للتجارة الدولية COMTRADE، إلا أنّ الجمارك تحدّد حجم الاستيراد بـ705 ملايين دولار، أي أكثر بـ164 مليون دولار.
7- مصر: بلغت قيمة صادرات مصر إلى لبنان 527 مليون دولار أميركي خلال عام 2023، وذلك وفقاً لقاعدة بيانات الأمم المتحدة للتجارة الدولية COMTRADE، إلّا أنّ أرقام الجمارك تظهر أنّ حجم الاستيراد من مصر هو 584 مليون دولار، أي بفارق 57 مليون دولار.
8- روسيا: يظهر موقع الجمارك الرسمي أنّ حجم الاستيراد اللبناني من روسيا الاتحادية قد بلغ في عام 2023 نحو 583 مليون دولار، لكنّ البيانات الروسية ولا حتى تلك العائدة إلى الأمم المتحدة تظهر حجم استيراد لبنان (نتيجة العقوبات)، ولهذا جرى استبعاد الأرقام الروسية.
9- ألمانيا: بلغت قيمة صادرات ألمانيا إلى لبنان 506.11 مليون دولار، وفقاً لقاعدة بيانات الأمم المتحدة للتجارة الدولية COMTRADE، وأمّا أرقام الجمارك فتحدّد الاستيراد في العام نفسه بـ546 مليون دولار، أي أكثر بنحو 40 مليون دولار.
10- الإمارات العربية المتحدة: تكشف أرقام وزارة الاقتصاد الإماراتية أنّ حجم التصدير غير النفطي إلى لبنان قد بلغ في عام 2023 نحو 455 مليون دولار، بينما تحدّد الجمارك اللبنانية الاستيراد من الإمارات بـ533 مليون دولار، أي أكثر بـ78 مليون دولار.
هل الخلل في عمل الجمارك؟
تظهر تلك البيانات أعلاه حجم التفاوت بين أرقام الاستيراد اللبنانية وتلك الأجنبية، بفارق وصل إلى 1.1 مليار دولار (أقصاه مع الصين بنحو 300 مليون دولار)، من دون أن يُعرف السبب خلفه (في حالة بعض الدول سالب باللون الأحمر، وموجب باللون الأخضر)، وهذا مؤشّر إلى احتمالات عدّة:
1- عدم التزام الجمارك بقيد البيانات بانتظام.
2- التلاعب بالأرقام من أجل التغطية على تهريب البضائع عبر المعابر البحرية.
3- التلاعب بأحجام وأثمان الصادرات بين الدول من أجل التهرّب الضريبي.
لكن في الحالات كافّة، فإنّ الشفافية المالية تعتبر في حالة الاستيراد مفقودة. وبالتالي فإنّ هذا التفاوت بالأرقام سوف يؤدّي إلى إظهار خلل في الميزان التجاري وميزان المدفوعات، وكذلك بناء صورة مشوّهة عن الاستيراد ترتدّ سلباً على “السياسات الاقتصادية”.
مارديني: تهرّب جمركي أم تغيير وُجهة؟
يعتبر الخبير الاقتصادي الدكتور باتريك مارديني أنّ التفاوت في أرقام الاستيراد مردّه إلى أسباب عديدة. فقد يكون نتيجة “الفرق في توقيت انطلاق البضائع من بلاد المنشأ ولحظة وصولها إلى المرفأ”. فالشحنة تنطلق من الصين مثلاً وتأخذ قرابة شهرين أو ربّما أكثر حتى تصل إلى وجهتها النهائية. قد يكون السبب أيضاً “البطء في تخليص البضاعة في المرفأ الذي بدوره يأخذ الكثير من الوقت نتيجة التعطيل والإضرابات… وهذا يجعل من الـProcessing عملية بطيئة جداً”.
السبب الثالث يردّه مارديني إلى “احتمال الفرق بسعر الصرف”، خصوصاً أنّنا نتحدّث عن أرقام عام 2023، وفي حينه كان سعر صرف الدولار في الداخل اللبناني متأرجح جداً، وتحديداً في النصف الأوّل من السنة، وهذا “قد يؤثّر على احتساب قيمة البضائع المستوردة”.
أمّا السبب الرابع فقد يكون، بحسب مارديني، على علاقة بـ”إعادة تصدير البضائع، إذ لا شيء يمنع من إعادة بيع البضائع خلال وجودها في البحر”، وهو ما يعني أنّ البضائع تُسجّل على لبنان في لحظة انطلاقها من بلد المنشأ، لكنّها لا تصل إليه فعليّاً، من دون أن ينفي احتمال التهرّب الجمركي.
لكن في كلّ الاحتمالات، فإنّ الشفافيّة المالية تبدو معدومة، حتى لو كان الفرق يعود لأيّ سبب من تلك الأسباب.
تهريب أموال أم تهرّب ضريبيّ؟
تقول الباحثة في الشؤون المصرفية والنقدية د. سابين الكك إنّ “التناقض في أرقام الاستيراد بين المصادر الداخلية والخارجية يمكن تفسيره في اتجاهين: إذا كانت الأرقام الداخلية أعلى فهذا يعني أنّ ثمّة تحويلات مالية قد خرجت تحت ستار الفواتير الاستيراديّة. أمّا إذا كانت الأرقام الخارجية أعلى فهذا يدلّ على وجود تهرّب ضريبي تخفيه فواتير مشبوهة. لكن في كلتا الحالتين فإنّ اقتصاد الكاش بدأ يترسّخ كنهج تدميري لما بقي من هيكل الدولة الماليّ والاقتصادي والمصرفي”.
تضيف الكك أنّ تبايناً في الأرقام الرسمية “يطرح علامات استفهام تقودنا حتماً إلى ما بين حدّين: التقاعس الوظيفي والأفعال الجنائية”.
يؤكّد كلّ هذا أنّ الشفافية الماليّة في أرقام الاستيراد (وربّما التصدير كذلك) معدومة ولا يمكن البناء عليها، وذلك على غرار أغلب الأرقام التي تصدر عن مؤسّسات الدولة… وما إعلان وكالة “فيتش” أخيراً عن وقف إصدار تصنيفات لبنان نتيجة غياب البيانات المالية، إلّا خير دليل على هذا الكلام.
صندوق النّقد يوصي بـ”تحليل المرآة”
يوصي صندوق النقد الدولي الدول باعتماد “تحليل المرآة” للبيانات الجمركية. تلك الآليّة هي مقارنة الصادرات التي تعلنها الدولة المصدّرة للمنتجات والفترة الزمنية نفسها، مع الواردات التي أبلغت عنها الدولة المتلقّية للسلع. وذلك من أجل ضبط التناقضات، وتحسين إدارة الجمارك في البلدان النامية مثل لبنان، التي تواجه تحدّي زيادة الإيرادات بشكل أكثر فعّالية.
يعتبر الصندوق أنّ آليّة “تحليل المرآة” مفيدة في الكشف عن البيانات الجمركية المشتبه بها أو المفقودة، والتي قد تؤثّر بشكل كبير على مقدار الرسوم والضرائب المستحقّة. في حين أنّ أكثر التلاعبات شيوعاً تشمل عدم الإعلان عن قيمة السلع المستوردة التي تمثّل القاعدة الخاضعة للضريبة، وتصنيف التعريفة الجمركية غير الصحيح (باستخدام عنوان فرعي من تسمية التعريفة الجمركية ذي معدّل منخفض من الرسوم أو الضرائب لا ينطبق على السلع)، والإعلان عن بلد منشأ غير صحيح يمنح السلع الحقّ في رسوم مخفّضة أو يعفيها من الرسوم تماماً.
عليه يوصي الصندوق الجمارك باعتماد “تحليل المرآة” من أجل:
1- تمكين التحقّق المتبادل من جميع بيانات الاستيراد الخاصّة ببلد ما وبيانات مصدر خارجي معروضة بتنسيق مماثل وقابلة للاستخدام المباشر.
2- الحصول على أدقّ مستوى ممكن من التفاصيل، التي تغطّي التناقضات الملحوظة على مستوى فصل تسمية التعريفات الجمركية.
3- كشف الاحتيال والمخالفات الجمركية التي يصعب تتبّعها من خلال البيانات الداخلية وحدها.
4- إنشاء ملفّ واحد يحتوي على جميع البيانات الجمركية الداخلية والخارجية.
5- عدم الاعتماد على دراسة الواردات فقط، وإنّما “الصادرات المفقودة” و”الواردات اليتيمة” أيضاً.
6- التمييز بين الاحتيال المفترض أو عدم الانتظام في بلد الاستيراد، لأنّ ثمّة العديد من الأسباب المحتملة للتناقض.
7- فرز النتائج والتحقّق منها من أجل إعادة بناء الفجوات بين الإيرادات المحصّلة والإيرادات المحتملة.
8- تحفيز تطوير وظيفة تحليل البيانات في الإدارات الجمركية الأقلّ تقدّماً.