أعدّ نواب الحاكم في مصرف لبنان خطة خلصت الى الطلب من مجلس النواب اقرار قانون يجيز للمصرف المركزي إقراض الحكومة انطلاقا من التوظيفات الإلزامية، أي احتياطي العملات الأجنبية. وذكرت الورقة معدل 200 مليون دولار شهريا على فترة 6 أشهر ما مجموعه قروض بقيمة 1.2 مليار دولار. ثم عاد النائب الأول لمصرف لبنان وسيم منصوري وصرح خلال خطاب التسلم ان مبلغ القرض ستحدده الحكومة. وتم تسريب ان الحكومة ستطلب حوالى 150 مليون دولار شهريا بدل ال200 مليون دولار. كما بدأت حملة ضغط كبيرة على نواب الامة لإقناعهم بضرورة تمرير القانون لتأمين حاجات الجيش والقوى الامنية والادوية المدعومة والمحروقات لاوجيرو والا فليتحملوا مسؤولية الأمن والفقراء والانترنت.
أولاً، من المثير للدهشة أن يُصرِّح نائب الحاكم بأن المشكل الأساسي في البلد هو هدر الاحتياطي وتمويل الحكومة، ثم يخلص الى اقتراح يدعو لهدر ما تبقى من احتياطي لتمويل الحكومة. ويظهر هذا الاقتراح تجاهلاً لسبب الأزمة المالية التي يعاني منها لبنان، نظرًا لأن اقراض المصرف المركزي للحكومة على سعر صرف ثابت يعَدُّ العامل الأكبر وراء الفجوة المالية والازمة الحالية. لذا ينبغي على المصرف المركزي تصحيح المسار، بدلًا من تكرار نفس الأخطاء وتمويل الحكومة مرة أخرى.
ثانيا، يحفّز هذا النهج الحكومة اللبنانية على عدم القيام بالإصلاحات في القطاع العام وعدم ترشيد إنفاقها لاعتمادها على خط ائتماني مفتوح من المصرف المركزي يلبي احتياجاتها المالية. وفي حال تسجيل سابقة تشريع اقتراض الحكومة بالدولار من مصرف لبنان، يصبح من السهل تمديد فترة الستة أشهر مرة تلو الأخرى الى حين هدر ال 9 مليار دولار المتبقية في الاحتياطي بالكامل، عندها يخسر المودعين أموالهم بالكامل وتنهار الليرة الى مستويات قياسية بسبب غياب تغطية الاحتياطي.
ثالثا، ان معدل الـ 200 مليون دولار وحتى الـ 150 مليون دولار بالشهر مضخمة بشكل كبير، لأن عجز الموازنة العامة لعام 2023 هو ٣٤ تريليون ليرة بحسب ارقام مشروع موازنة العام 2023، ما يعادل 33 مليون دولار بالشهر على سعر صرف منصة صيرفة. أي ان حاجة الحكومة على 6 أشهر لا تتخطى ال 200 مليون دولار لتأمين حاجات الجيش والقوى الامنية والادوية والاتصالات… فلماذا اقتراض مليار و200 مليون دولار؟ يرفع هذا الفارق من شبهات الفساد والهدر والشكوك حول رغبة السلطة تقاسم ال ٩ مليار دولار المتبقية في الاحتياطي.
رابعا، كانت الحكومة قد رفعت الدولار الجمركي والرسوم بشكل كبير في عامي 2022 و2023 بحجة تمويل الرواتب والأجور، كما رفعت تعرفة الاتصالات والكهرباء لتغطية تكلفة تشغيل هذه المؤسسات من الجباية. فلماذا تعود وتطالب بتمويل إضافي لهذه البنود من خلال الاقتراض من مصرف لبنان؟ وإذا كانت النفقات ما تنفك ترتفع فالحل يكمن بترشيد الانفاق وزيادة الفعالية لا اقتراض ما تبقى من أموال للمودعين. كما يتم تهريب الدواء المدعوم الى خارج لبنان او بيعه في السوق السوداء بالسعر العالمي بدل بيعه بالسعر المدعوم. لذا يعاني معظم مرضى الامراض المستعصية من انقطاع الادوية بسبب دعمها، ما يولد مأساة حقيقية لهم، ولا يستفيد من هذا الدعم سوى المهربين وتجار السوق السوداء. ومن هنا لم يعد مقبول الاستمرار بسياسة دعم الادوية رحمة بالمريض والفقير والمودع على حد سواء.
خامسا، لا يمكن الحديث عن قدرة او عدم قدرة الحكومة اللبنانية على سداد ديونها من دون الرجوع الى تصنيف لبنان الائتماني. وقد صنفت وكالاتFitch و S&P لبنان بدرجة Bو Moody›s بدرجة B1 العام 2011-2012، ما عنى ان لبنان كان قادرا على تسديد ديونه الى حد كبير في حينه. ثم بدأ تصنيف لبنان ينخفض الى ان وصل الى أدنى المراتب اليوم. لذا لا يمكن للحكومة سداد ديونها قبل عودتها الى مستويات التصنيف الائتماني لعام 2011-2012، أي بعد إعادة هيكلة الدين العام وتأمين استدامة للمالية العامة وعودة لبنان الى الأسواق العالمية.
سادسا، يخالف هذا الاقتراح جوهر قانون النقد والتسليف الذي وضع في لبنان، وفي معظم بلاد العالم، لمنع تمويل المصرف المركزي للحكومة. وقد عايشنا في لبنان نتيجة عدم احترام هذه القاعدة ورأينا الفجوة في امول المودعين والتضخم الذي يسببه ذلك. وعادة ما تسعى السلطة السياسية الى الضغط على المصرف المركزي لتمويل مشاريعها، ولكن الأخير يتحصن بقانون الفقد والتسليف ليرفض ذلك. اما ان يطلب المصرف المركزي بإزالة هذه الحماية التي يمنحها القانون له فهذه سابقة تقضي على استقلالية المصرف المركزي وتعرضه للضغوط السياسية مخالفة كل الأعراف والتوصيات بهذا المجال مما يزيد من عدم استقرار الاقتصاد اللبناني بشكل كبير.
يرفض النائب الأول لحاكم مصرف لبنان المس باحتياطي العملات الأجنبية من دون تشريع وهو قرار يحمد عليه لأنه يحافظ على ما تبقى من دولارات للمودعين. ولكن اقتراحه اقراض الحكومة بالدولار ليتمكن من ضخ هذه الدولارات في السوق دون الحاجة الى اللجوء لمنصة صيرفة يعد دعسة ناقصة، تستكمل نهج رياض سلامة بإدارة الازمة، أي استنزاف الاحتياطي وتكبير الفجوة الى حين مجيء الفرج. من هنا أهمية وقوف النواب بوجه هذا المقترح لا من منطلق عدم جواز التشريع في ظل الفراغ الرئاسي، بل من منطلق النتائج الكارثية لهذا الاقتراح. فاذا كان النائب الأول لحاكم مصرف لبنان جدي برفضه المس بالاحتياطي من دون تشريع ورفض النواب تشريع اقتراحه، يبقى امام المركزي خياران: اما الاستمرار بطباعة الليرة لرفع الدولار وتحريك الشارع من اجل تمرير القانون عبر الضغط، اما التوقف طباع الليرة لتمويل الحكومة ما يضع لبنان على سكة الإصلاح.