إذا تَحقّق مقترح الرئيس الروسي بتحويل تركيا إلى مركز لتصدير الغاز الروسي إلى أوروبا، فإن سوريا ولبنان يصبح لديهما خيار آخر للتزوّد بالغاز الطبيعي، وتالياً حلّ جزء من أزمة الطاقة لديهما. خيارٌ مقوّماته الفنية تبدو حاضرة، ولا تحتاج سوى إلى أعمال صيانة، إنما مظلّته السياسية تبْقى بيد أنقرة، التي لا يُعرف ما إن كانت ستُوافق على تشغيل وصلة كلس – حلب أم لا، مع الأخذ في الاعتبار الثمن السياسي الذي ستطلبه إنْ كانت ستُوافق على ذلك
يُرجع الكثيرون سرّ التحوّل التركي في الموقف من العلاقة مع دمشق، إلى المكاسب الاقتصادية التي وعدت بها موسكو أنقرة، وخاصة لجهة المقترح المتعلّق بإنشاء مركز للغاز الروسي في تركيا بُغية تصديره إلى أوروبا. وعلى مدار الأسابيع القليلة الماضية، خرجت مجموعة من التحليلات والدراسات، التي حاول أصحابها من سياسيين وباحثين وإعلاميين مقاربة أفق تطوّر العلاقات السورية – التركية في جانبها السياسي، مستندين في ذلك إلى لقاءات أمنية عُقدت بين الجانبَين، وتسريبات إعلامية اتّضح سريعاً أنها في جزء منها كانت أخباراً غير صحيحة أو مجرّد بالونات اختبار. ومع ذلك، فإن معظم المؤشّرات تذهب إلى القول إنه أيّاً كان مستوى التطبيع المرتقَب في علاقات البلدَين وشكله، فإن هناك مدخلَين لذلك: الأوّل أمني يفرضه الوجود الكردي المسلّح في منطقة الجزيرة والفصائل المسلّحة في إدلب؛ والثاني اقتصادي تفرضه المصالح المشتركة التي تعطّلت منذ منتصف عام 2011، كتجارة «الترانزيت» والتبادل التجاري المشترك وغيرهما. لكن مع الحديث الروسي عن إمكانية إنشاء مركز للغاز في تركيا، فإن أحد الأسئلة التي تُطرح في دمشق اليوم هي: هل يمكن أن يصل الغاز الروسي إلى دمشق أيضاً؟ وإذا كانت الولايات المتحدة الأميركية عطّلت وصول الغاز المصري إلى لبنان لحلّ أزمة الكهرباء، فهل يمكن للغاز الروسي أن يكون هو البديل؟
الوَصْلة صالحة فنّياً
الإجابة على هذَين السؤالَين تحتّم مناقشة جانبَين: الأول فنّي يتعلّق بمدى تَوفّر المقوّمات والبنية التحتية والفنّية التي يمكنها أن تسمح بنقل الغاز الروسي إلى تركيا؛ والثاني سياسي يتمثّل في الظروف التي يمكن أن تعيق أو تساعد على إنجاز مِثل ذلك المشروع. وبحسب مصدر في قطاع النفط السوري تحدّث إلى «الأخبار»، فإن «الشبكة السورية مربوطة بالشبكة التركية في إطار مشروع خطّ الغاز العربي، عبر خطّ أنابيب يصل مدينة حلب السورية بمدينة كلس التركية الحدودية، وإنْ لم يُستثمر فعلياً بسبب الحرب، كما أنه ليس هنالك من عائق فنّي حقيقي أو حاجة إلى مدّ خط أنابيب جديد، إذ يمكن إجراء بعض عمليات الصيانة للخطّ القديم ليصبح جاهزاً لضخّ الغاز». إلّا أن العائق الوحيد يكمن في وقوع أجزاء من الأنابيب في مناطق سيطرة الفصائل المسلّحة، وهو يتطلّب من أنقرة الضغط على تلك الجماعات المُوالية لها لضمان عدم مساس مسلّحيها بالخطّ أو تخريبه، كما كان يحدث في مناطق مختلفة من البلاد، قبل أن يتمكّن الجيش السوري من استعادة السيطرة على مساحات واسعة خلال عامَي 2017 و2018. هذا لجهة وضع الربط مع الشبكة التركية، أمّا مع لبنان، فإن الوضع أسهل بكثير، لا سيما بعد قيام الفرق الفنّية في كلّ من سوريا ولبنان بأعمال صيانة كاملة، وإعلانها جهوزية وصلة حمص – طرابلس لنقل الغاز، في ما لو جرى ضخّ الغاز المصري عبر خطّ الغاز العربي، وفق ما أُعلن العام الماضي، قبل أن يتعرّض المشروع للتجميد نتيجة تخوّف مصري من العقوبات الأميركية، ورفْض واشنطن منْح موافقة خطّية للمصريين.
أين قرار أنقرة؟
لا تبدو الأمور سياسياً بهذه السهولة التي قد تكون عليها من الناحية الفنّية، إذ إن السياسة التركية الخارجية لا تزال تلعب على تناقضات المنطقة والإقليم، ولا يمكن التكهّن بما سيكون عليه موقف أنقرة من مسألة تزويد دمشق بالغاز في ما لو طلبت موسكو ذلك، أو ترتيب مثل هذه الخطوة ضمن خطوات التقارب في حال انطلق قطار التطبيع بين البلدَين. وبحسب الباحث في الشأن التركي، أحمد الإبراهيم، فإن هناك «مشروعَين اثنين فقط، هما مشروع أوراسيا (الصين وروسيا وإيران وسوريا والعراق ولبنان) الذي سيَكتمل بانتقال تركيا إليه؛ ومشروع الشرق الأوسط الكبير الأميركي – الإسرائيلي والذي تُعتبر تركيا الرئيس الإقليمي له، أمّا ما تبقّى فعبارة عن أوراق يتمّ استخدامها كوسائل إلهاء من جهة، وضغط من جهة أخرى. وتصريح بوتين وحديثه في أستانا إلى إردوغان جاءا ضمن إطار مشروع أوراسيا، وهو يحمل تحذيراً لأوروبا، وبشكل خاص للثُلاثي: ألمانيا وفرنسا وإيطاليا. وهو أيضاً رسالة إلى تركيا مُفادها رفْع التعاون في مجالَي الطاقة والسياسة». ويضيف الإبراهيم، في حديث إلى «الأخبار»، أن «قرار تصدير الغاز الروسي إلى سوريا سيكون إنْ تمّ، بناءً على اتّفاق روسي – تركي، وتركيا ليست سيّدة القرار فيه بمفردها، فالتعاون إلى هذه الدرجة بين البلدَين يحتاج باعتقادي إلى ثورة تركية، وليس إلى مجرّد انعطافه في السياسة الخارجية (…) كما أن أيّ خطوة إيجابية تركية حيال سوريا تعني انتهاء المشروع الأميركي في المنطقة أو تأجيله على الأقلّ، وبالتالي تطبيع العلاقات بين الدولتَين».
على أن ثمّة مَن يذهب أبعد من ذلك، متسائلاً عمّا إذا كان من مصلحة موسكو أن يَجري ضخّ الغاز في وصلة حلب – كلس لأوّل مرّة؟ وعن إمكانية أن يشكّل ذلك عاملاً مُنافساً لها على المدى البعيد، لا سيّما في ظلّ رغبة قطر في تصدير غازها برّاً إلى أوروبا، والاتّفاق السوري – الإيراني – العراقي منذ سنوات عدة على إنشاء خطّ أنابيب مشترك لتصدير الغاز الإيراني عبر البحر المتوسّط؟ ربّما يكون هذا صحيحاً لو أن روسيا لا تملك نفوذاً وعلاقات استراتيجية مع سوريا بالدرجة الأولى، ومع إيران بالدرجة الثانية. وتالياً، ليس هناك ما يُقلق موسكو في موقف حليفتها دمشق، ومن ثمّ، فإنه يمكن عكْس السؤال ليصبح: ما الفائدة التي تجنيها موسكو من إيصال غازها إلى سوريا؟ أوّلاً، مساعدة دمشق على حلّ أزمة الطاقة لديها، وما يشكّله ذلك من تحسّن اقتصادي تدريجي ضروري لتعزيز التحالف القائم بين الحكومتَين؛ وثانياً، إشباع حاجة الاستثمارات الروسية في سوريا إلى الطاقة، وتحديداً معمل الأسمدة الذي لا يزال يعمل ضمن إمكانات متواضعة بحجّة عدم تَوفّر كمّيات الغاز اللازمة لتطوير إنتاجه.