العودة إلى أرقام 2023، سرعان ما تُظهر التوازنات النقديّة والماليّة الهشّة التي يقوم عليها الاقتصاد اللبناني. إذ باتت التدفّقات الواردة من تحويلات المغتربين، وزياراتهم الموسميّة إلى لبنان، تحوز على حصّة متزايدة من حجم الناتج المحلّي، بفعل تقلّص حجم الاقتصاد الوطني وتضاؤل أنشطته. فشلل المؤسسات العامّة، وتدهور أوضاع البنية التحتيّة، ما زالا يحولان دون استفادة القطاعات الإنتاجيّة من التراجع الذي طرأ على سعر صرف الليرة خلال السنوات الماضية، والذي كان يفترض أن يزيد من تنافسيّة الإنتاج المحلّي مقابل الإنتاج الأجنبي داخل السوق اللبناني وخارجه.
هكذا، بات لبنان يكرّس –كجزء من نموذجه الاقتصادي– ظاهرة تصدير المغتربين بفعل الأزمة القائمة، ومن ثم الاعتماد عليهم لتأمين التدفّقات اللازمة للحفاظ على هذا النموذج الهش، ما يضع الاقتصاد المحلّي في الدوّامة ذاتها التي قادت البلاد نحو الكارثة الماليّة التي ضربتها عام 2019. المشكلة الأساسيّة، هي أن تزايد الاعتماد على أموال الاغتراب لم يرتبط بتزايد الفرص الاستثماريّة الجاذبة لهذه الأموال، إذ أنّ حجم هذه التدفقّات تراجع مقارنة بمستويات ما قبل الأزمة. بل ارتفعت نسبة التدفّقات من الناتج المحلّي، بعدما خسر الناتج المحلّي 65% من قيمته بين 2019 و2023. بمعنى أوضح: هشاشتنا زادت من الإدمان على أموال المغتربين، من دون أن تزداد تحويلاتهم.
تدفّقات المغتربين تتضاءل لكن تزداد أهميّة!
آخر أرقام البنك الدولي، تشير أنّ لبنان تلقى خلال العام 2023 ما يقارب 6.37 مليار دولار أميركي من تحويلات المغتربين من الخارج، وهو ما يقل بنحو 1% عن تحويلات العام السابق 2022، والتي بلغت 6.44 مليار دولار. الأهم، هو أن حجم هذه التحويلات ما زال يقل عن 86% فقط عن حجم التحويلات السنويّة التي كان يتلقّاها لبنان عام 2019، أي قبيل حصول الانهيار المالي. إذ بلغ حجم هذه التحويلات في ذلك العام بالتحديد 7.41 مليار دولار أميركي.
خلال عامي 2020 و2021، تم تفسير هذا التراجع بتفشّي وباء كورونا، وما طرأ من تراجع اقتصادي في بلدان الاغتراب. إلا أنّ عدم استعادة هذه التحويلات عافيتها حتّى اللحظة يدل على وجود عوامل داخليّة لبنانيّة خلف هذا التراجع، وفي طليعتها عدم توفّر الفرص الاستثماريّة والنظام المالي المستقر، لجذب هذه التدفّقات.
الملفت للنظر، هو أنّ لبنان شهد بين عامي 2017 و2022 موجة هجرة عظيمة، غادر خلالها أكثر من 275 ألف لبناني البلاد باتجاه بلدان الاغتراب. وبينما كان يفترض أن يؤدّي ذلك إلى زيادة التدفّقات النقديّة الواردة من هذه الفئة، التي مازالت تحتفظ بروابط عائليّة وثيقة داخل لبنان، حصل العكس تمامًا، وهو ما يعيد التأكيد على وجود عوامل طاردة للتحويلات الواردة، وعلى فقدان لبنان لجاذبيّته اتجاه رؤوس الأموال، ومنها أموال المغتربين.
رغم تراجع قيمة هذه التحويلات بشكل ملحوظ، منذ العام 2019، ارتفعت أهميّتها بالنسبة للبنان، بعد أن تزايدت حصتها من النشاط الاقتصادي المحلّي. فخلال العام 2019، كان حجم الناتج المحلّي اللبناني يناهز حدود 51 مليار دولار، ما جعل تحويلات المغتربين توازي نحو 14.5% فقط من حجم الناتج المحلّي الإجمالي. أمّا خلال 2023، ورغم تراجع حجم هذه التحويلات، باتت هذه التحويلات تمثّل 36% من حجم الناتج المحلّي الإجمالي، وذلك ببساطة لأن حجم الناتج المحلّي تضاءل ليلامس حدود 18 مليار دولار فقط هذه السنة.
تقلّص حجم الاقتصاد الحقيقي
البحث عن أسباب تقلّص حجم الاقتصاد الحقيقي يقودنا إلى النظر في الميزان التجاري اللبناني، إذ لم تسجّل الصادرات اللبنانيّة خلال الأشهر الثمانية الأولى من العام 2023 سوى نمو ضئيل بنسبة 1.46%، مقارنة بالفترة المماثلة من العام الماضي، ليقتصر حجمها على نحو 2.38 مليار دولار. في المقابل، وخلال الفترة نفسها، تجاوزت قيمة السلع المستوردة حدود 10.69 مليار دولار، ما أنتج عجزًا في الميزان التجاري بقيمة 8.32 مليار دولار. ومن المهم الإشارة هنا إلى أنّ قيمة هذا العجز تتجاوز حدود 1.78 أضعاف مثيله في الفترة نفسها من العام 2020، ما يشير إلى أنّ اعتماد البلاد على السلع المستوردة تزايد خلال سنوات الأزمة لا العكس.
ببساطة، فشلت البلاد خلال الأزمة الراهنة في الانتقال إلى نموذج أكثر إنتاجيّة، بالرغم من تخلّصها من سياسة تثبيت سعر الصرف التي اعتمدها مصرف لبنان قبل العام 2019، والتي ضخّمت قيمة الليرة أمام الدولار. فتضخّم قيمة الليرة مقابل الدولار قبل العام 2019، ساهم في تخفيض أسعار السلع المستوردة مقابل المنتجات المحليّة داخل السوق اللبناني، وفي رفع أسعار الصادرات اللبنانيّة في الأسواق الأجنبيّة، ما ضرب تنافسيّة الإنتاج المحلّي. أمّا اليوم، وحتّى بعد التخلّص من هذه السياسة النقديّة، لم يتمكن لبنان من تنمية القطاعات الإنتاجيّة، بسبب ضمور دور الدولة في تأمين البنية التحتيّة وأبسط مستلزمات الإنتاج، وخصوصًا الطاقة ذات الكلفة المنخفضة.
القطاع السياحي يعتمد على الاغتراب أيضًا
أمام هذا المشهد، يشير البعض إلى تمكّن لبنان من تسجيل موسم اصطياف ناجح خلال فصل صيف الماضي، ما يمثّل انتعاشة في أداء القطاع السياحي. لكن من المهم الإشارة هنا إلى أنّ هذه الانتعاشة ظلّت محكومة بالاعتماد على الاغتراب اللبناني، وخصوصًا الجيل الأخير منه، الذي غادر البلاد خلال السنوات الماضية، واحتفظ بصلات عائليّة واجتماعيّة مع الداخل اللبناني. وهذا لا يقلّل طبعًا من أهميّة التدفّقات النقديّة الناتجة عن هذا النشاط، ولكنّه يؤشّر إلى اتصال هذه التدفّقات –مجددًا- بظاهرة تصدير الاغتراب إلى الخارج.
فأرقام وزارة السياحة للأشهر العشرة الأولى من العام تشير إلى أنّ 61.4% من الزوّار الوافدين إلى البلاد كانوا من اللبنانيين المغتربين، في حين أن الزوّار العرب والأجانب مثّلوا 38.6% من هؤلاء الزوّار. ومن المهم الإشارة هنا إلى أنّ جزءاً كبيراً من الزوّار الأجانب هم عمليًا من ذوي الأصول اللبنانيّة، أو مزدوجي الجنسيّة، الذين يقومون بالاعتماد على جوازات سفر أجنبيّة للتنقّل ودخول لبنان، ما يضعهم إحصائيًا في خانة الأجانب.
مساعدات بإسم اللاجئين
أخيرًا، وعند مقاربة التوازنات النقديّة والماليّة التي تحكم السوق حاليًا، لا يمكن التغاضي عن حصول لبنان على مساعدات تقارب قيمتها 1.1 مليار دولار أميركي خلال الأشهر التسعة الأولى من العام، كجزء من “خطّة الاستجابة للأزمة في لبنان”. وهذه المبالغ، التي تقارب قيمتها 6.1% من حجم الاقتصاد اللبناني، تأتي من أكثر من 118 منظّمة ودولة في إطار متناسق، بهدف التخفيف من تداعيات أزمة النزوح السوري في لبنان، ومساعدة الفئات الهشّة السوريّة والفلسطينيّة واللبنانيّة المقيمة على الأراضي اللبنانيّة. ومن المعلوم أنّ جزءاً كبيراً من هذه المساعدات ذهب لتمويل مشاريع البنية التحتيّة التي يستفيد منها اللبنانيّون والسوريون والفلسطينيون على حدٍ سواء، مثل المشاريع المتصلة بقطاعات المياه والكهرباء والطرقات والصرف الصحيّة وغيرها.
في النتيجة، وأمام تدهور أوضاع الاقتصاد الحقيقي، لم يتبق للاقتصاد اللبناني سوى هذا النوع من مقوّمات البقاء، أي التدفّقات الناتجة عن تحويلات وزيارات المغتربين، وبعض المساعدات الخارجيّة. أمّا تحقيق التدفقات النقديّة بفعل الإنتاج والتصدير، أو استقطاب الاستثمارات ورؤوس الأموال، فما زال بعيد المنال، طالما أنّ الدولة اللبنانيّة لا تملك بالفعل رؤية اقتصاديّة تستهدف النهوض بقطاعاتها الإنتاجيّة.