من القاعة نفسها التي أطلّ منها للمرة الأولى الحاكم بالإنابة وسيم منصوري، قبل 20 شهراً في مبنى مصرف لبنان بالطابق السابع، يُطل على اللبنانيين اليوم كذلك، الحاكم الجديد كريم سعيد في حفل تسلّم وتسليم، دعا إليها “المركزي” أمس جميع وسائل الإعلام.
هي المرة الأولى التي سيتوجّه فيها كريم سعيد إلى اللبنانيين، بعد أداء القسم أمام رئيس الجمهورية جوزاف عون يوم أمس، فاتحاً مرحلة جديدة، بل نهجاً جديداً من العمل داخل مصرف لبنان، لناحية مقاربة الأزمة وطرح الحلول، خصوصاً بعد الملابسات و”محاولة الاغتيال” المسبقة التي تعرّض لها على يد جميعة “كلنا إرادة” وبعض المقربين من رئيس الحكومة نواف سلام.
تلك المحاولة كان الهدف منها واضحاً: “شيطنة” كريم سعيد من أجل إحراق اسمه وبالتالي تمرير اسم آخر. وإن لم يحصل ذلك، كان يُراد إرضاخ سعيد لأجندة “كلنا إرادة”، التي تريد التأكيد على أنّ المصارف هي الجهة الوحيدة المسؤولة عن الأزمة.
كان المطلوب من أيّ حاكم لمصرف لبنان، أن يأتي وبيده السكين لذبح المصارف، واحداً تلو الآخر .
وهذا طبعاً لن يحصل. ليس من باب الكيد مع “كلنا إرادة” أو مع من يتبنى مقاربتها للأزمة، وإنّما من باب المنطق والعلم وليس “الشعبويات الفارغة” التي رافقت سنوات الأزمة الخمس الفائتة.
قد يسأل سائل، ما هو المطلوب من ثاني أهم منصب ماروني في لبنان بعد رئاسة الجمهورية؟ الجواب بسيط وقد يُلخّص بالنقاط التالية، وهي بالمناسبة ليست نهائية وقد تخضع للإضافات والتعديل:
1. أن يواصل العمل على استقرار سعر صرف الليرة، لأنّ الاستقرار حمى القدرة الشرائية للبنانيين، خصوصاً القدرة الشرائية لنحو 350 ألف موظف في القطاع العام. كما ساهم الاستقرار، ولو كان البعض لا يعترف بذلك، في زيادة إيرادات الدولة من خلال حضّ المواطنين على دفع الضرائب والرسوم (الاستقرار حافز على الدفع بخلاف التذبذب في السعر الذي يدفع المواطنين إلى الانتظار والتردد).
هذا الاستقرار، أبعدنا كذلك عن آفة المضاربة والمضاربين، بعد أن تحوّل أغلب اللبنانيين، إلى لاعبي ميسر ومضاربين يستفيقون وينامون على هواتفهم الذكية لمراقبة أسعار التطبيقات غير الشرعية (لمن يذكر).
2. ألاّ يكون ممولاً للحكومة، بحيث يستمر في سياسة عدم إقراض الدولة تحت أيّ ظرف من الظروف، فتعتمد من خلال ذلك الحكومات الحالية واللاحقة على إيراداتها (وحصراً إيراداتها المرسومة في الموازنة) من أجل الانفاق. فهذه السياسة هي حافز إضافي على تفعيل الجباية ومكافحة التهرّب الضريبي.
3. أن يكون سنداً للحكومة في عملية “رسم” خطّة الإنقاذ، التي يُفترض بها أن تشمل قانون هيكلة المصارف، بما يخلق التوازن بين أمرين: الحفاظ على القطاع المصرفي وحمايته. والعمل على حماية أكبر قدر ممكن من الودائع، بعيداً من الشعارات الفارغة التي صمّت آذان المودعين مثل “قدسية الودائع” و”الودائع لا تُمسّ”… فأمست بالفعل لا تُمسّ ولا تُرى.
4. أن يضع تصوراً فعالاً لمستقبل العملة اللبنانية، لناحية تسهيل العمليات الحسابية، وطريقة حيازة العملة وحملها، إذ يستحيل استمرار التداول بالفئات نفسها مستقبلاً. مع العمل الجدّي على “رقمنة” أساليب الدفع إن كان بواسطة البطاقات البلاستيكية أو عبر التطبيقات التي باتت منتشرة في أكثر الدول تخلفاً حول العالم، بينما نحن في لبنان نستمر في حمل الأوراق النقدية. تلك الأساليب سوف تكون كفيلة بدفع لبنان قدماً نحو خروجه من لائحة FATF الرمادية، وتقدمه خطوة إضافية في طريق الإصلاح النقدي والمالي.
5. أن يستكمل العمل على رسم “خارطة الودائع”، وذلك لناحية معرفة عدد الحسابات لكل مودع، ونوعيتها: بالدولار أو بالليرة اللبنانية، قبل الأزمة أو بعدها، في أيّ من الفروع والمصارف، بـ “اللولار”، أم بالدولار “الفريش”، دائنة أم مدينة، مستفيدة من ثقب الـ 1500 ليرة الأسود أم غير مستفيدة… إلخ من تلك التوصيفات التي ستساهم حكماً في فهم واقع الودائع بشكل شفاف. وبالتالي معرفة عمق الأزمة وأساليب وضع الحلول لها. لأنّ الشفافية هي الممر الإلزامي لمكافحة التضارب في الأرقام الذي ساد لسنوات وفتح الباب أمام التأويل و”رش” الحلول جزافاً بلا أيّ سند أو معطيات متينة.
6. أن يستكمل العمل على سدّ الثغرات التي اعترت التدقيق الجنائي لشركة “ألفاريز أند مارسال” في حسابات مصرف لبنان، لأنّ هذا التدقيق هو مدخل إجباري لنجاعة النقاط أعلاه، وحافز إضافي وفعّال لـ “فوز” لبنان ببرنامج مع صندوق النقد الدولي، الذي نطمح لإملاءاته أكثر مما نطمح لأمواله.
تلك، قد تكون أبرز النقاط المطلوبة من الحاكم الجديد الذي يستأهل الحصول منّا كلبنانيين (مواطنين وصحافيين ووسائل إعلام) على الدعم الكامل و”الفرصة” لاختبار قدراته ومؤهلاته التي قرأناها في سيرته الذاتية، قبل التصويب المسبق ضده قبيل تعيينه، خصوصاً في ظلّ عمل الحكومة الحالية، التي لن يزيد عمرها عن السنة الواحدة قبل بلوغها استحقاق الانتخابات النيابية.