بعد أن استحوذ على حياتنا، يعتقد باحثون أننا نقترب بسرعة من سقف ما يمكن أن يحققه الذكاء الاصطناعي ويتحدثون عن “ذكاء عضوي” مدعوم بخلايا دماغ بشرية حية يمكن أن يتفوق في وقت قريب نسبيا على أي نظام آخر عرفناه حتى اليوم.
لندن- لنستعد منذ الآن للحديث عن الذكاء العضوي (OI)، الذي سيبدو أمامه الذكاء الاصطناعي محدودا. هذا ما يقوله العلماء، وعلينا أن نصدقهم.
في اللحظة التي اعتقدنا فيها أن الذكاء الاصطناعي هو أم الاختراعات جميعها، وأن ما بلغه مع روبوتات الدردشة هو قمة الجبل، يخرج إلينا العلماء بابتكار يقولون إنه سيحيل الذكاء الاصطناعي على التقاعد.
“الحوسبة الحيوية” المستقبلية التي تستخدم قوة خلايا الدماغ البشري يمكن أن تصبح حقيقة واقعة، وهو ما سيؤدي وفق دراسة نشرت مؤخرا إلى إحداث ثورة في التكنولوجيا الرقمية. ويقول باحثون من جامعة جونز هوبكنز شاركوا في إعداد الدراسة إن أجهزة نصف بشر ونصف آلة لديها القدرة على تجاوز الحدود التكنولوجية الحالية باستخدام عضيات الدماغ المأخوذة من عينات صغيرة من الجلد البشري ستظهر بيننا مستقبلا.
حوسبة حيوية
ويقول توماس هارتونغ، أستاذ علوم الصحة البيئية الذي يقود الفريق، “كانت الحوسبة والذكاء الاصطناعي يقودان الثورة التكنولوجية، لكنهما وصلا إلى الحد الأقصى (..) تعد الحوسبة الحيوية جهدا هائلا لضغط القوة الحسابية وزيادة كفاءتها لتجاوز حدودنا التكنولوجية الحالية”.
وأجرى الفريق تجارب على أنسجة دماغية بحجم نقطة القلم تحتوي على خلايا عصبية ووظائف أخرى لها القدرة على التعلم والحفظ. ويؤكد هارتونغ أن هذه “الأجهزة البيولوجية” يمكن أن تساعد قريبا في الكشف عن معلومات قيمة حول كيفية عمل الدماغ البشري، وتفتح الطريق لإيجاد طريقة للتقليص من متطلبات استهلاك الطاقة في أجهزة الكمبيوتر العملاقة.
وعلى الرغم من أن أجهزة الكمبيوتر قادرة على إجراء العمليات الحسابية باستخدام الأرقام والبيانات أسرع بكثير من البشر، إلا أن الدماغ أفضل بكثير في اتخاذ القرارات المنطقية المعقدة، مثل تحديد حيوان من حيوان آخر.
ويؤكد هارتونغ أن الفريق العلمي الذي يقوده بات على مقربة من تحقيق التقنيات اللازمة للكشف عما أسماه الحوسبة الحيوية. ويأمل الفريق أن يقوم الذكاء العضوي بتأدية الوظائف الرائعة للدماغ البشري، خاصة في قدرته على اتخاذ القرارات السريعة بناء على معلومات منقوصة ومتناقضة (التفكير الحدسي).
وكشف هارتونغ وزملاؤه عن رؤية شاملة لمستقبل الذكاء العضوي في مقال نشرته مجلة فرونتير ساينس.
ويضم الفريق علماء من مخابر كورتيكال، التي سبق أن تصدرت عناوين الصحف العام الماضي، بإنماء طبق مليء بخلايا دماغ حية سرعان ما علمت نفسها أن تلعب لعبة الفيديو الأصلية بونغ.
توفير الطاقة
ويتحدث هارتونغ وفريقه الآن عن إمكانية بناء كمبيوتر عملاق باستخدام هذه العضيات مستقبلا، وهو ما يمكن أن يقلص إلى حد كبير من متطلبات استهلاك الطاقة للحوسبة العملاقة، والتي أصبحت غير مستدامة بشكل متزايد. وعلى الرغم من أن هذا الإنجاز قد يستغرق عقودا قبل أن يتمكن الذكاء العضوي حتى من تشغيل فأرة الكمبيوتر، إلا أن هارتونغ يتوقع مستقبلا تدعم فيه أجهزة الكمبيوتر الحيوية السرعة الفائقة، وقوة المعالجة، وكفاءة البيانات، وقدرات التخزين في الحوسبة من خلال زيادة إنتاج العضويات وتدريبها على الذكاء الاصطناعي.
سوف يستغرق الأمر عقودا كما يؤكد هارتونغ قبل أن يتحقق هدف يمكن مقارنته بأي نوع من أجهزة الكمبيوتر، “حتى هذه اللحظة لا يزال الدماغ متفوقا على أجهزة الكمبيوتر الحديثة”.
لكن الفريق تحدث عن فضائل تجميع عضيات الدماغ في أشكال جديدة من أجهزة الكمبيوتر البيولوجية لتصبح أكثر كفاءة في استخدام الطاقة.
وهو ما أكده هارتونغ قائلا “فرونتير، وهو أحدث كمبيوتر عملاق في ولاية كنتاكي الأميركية، بلغت كلفته 600 مليون دولار، ومساحته 6800 قدم مربع. في يونيو العام الماضي فقط، استطاع أن يتجاوز ولأول مرة القدرة الحسابية لدماغ بشري واحد.. ولكن باستخدام طاقة أكثر بمليون مرة”.
ويقر هارتونغ بأن أجهزة الكمبيوتر أسرع في معالجة الأرقام والبيانات، لكنه يؤكد أن العقل البشري يظل أفضل عندما يتعلق الأمر بالمشكلات المنطقية المعقدة:
“أجهزة الكمبيوتر والدماغ ليست متشابهة، على الرغم من أننا حاولنا جعل أجهزة الكمبيوتر أشبه بالدماغ منذ بداية عصر الكمبيوتر. وما يعد به الذكاء العضوي هو إضافة بعض الصفات الجديدة”.
ويعد استخدام العضيات المزروعة من الخلايا مفيدا للعلماء لأنه لا يتطلب اختبارا على الإنسان أو الحيوان. وكان هارتونغ قد بدأ العمل على إنشاء عضيات دماغية وظيفية منذ عام 2012 باستخدام خلايا الجلد البشرية التي تمت إعادة برمجتها إلى حالة تشبه الخلايا الجذعية الجنينية، يمكن استخدامها بعد ذلك لتكوين خلايا المخ، وفي النهاية، الوصول إلى عضويات تحتوي على خلايا عصبية عاملة وميزات أخرى يمكن أن تحافظ على الوظائف الأساسية مثل الذاكرة والتعلم المستمر.
ويؤكد هارتونغ “هذا يفتح الباب أمامنا للبحث في كيفية عمل الدماغ البشري. يمكننا البدء في التلاعب بالنظام، والقيام بأشياء لا يمكنك القيام بها أخلاقيا بالعقول البشرية”.
ويعتقد فريق جونز هوبكنز أيضا أن الذكاء العضوي يمكن أن يحدث ثورة في أبحاث اختبار الأدوية لاضطرابات النمو العصبي والتنكس العصبي.
وتقول لينا سميرنوفا، الأستاذة المساعدة في الصحة البيئية والهندسة في جامعة جونز هوبكنز، “نريد مقارنة عضيات الدماغ من متبرعين متطورين عادة مقابل عضيات الدماغ من متبرعين مصابين بالتوحد”.
أسئلة أخلاقية
“الأدوات التي نطورها للوصول إلى الحوسبة البيولوجية هي نفس الأدوات التي ستسمح لنا بفهم التغييرات في الشبكات العصبية الخاصة بالتوحد، دون الحاجة إلى استخدام الحيوانات أو الوصول إلى المرضى، حتى نتمكن من فهم الآليات الكامنة وراء سبب إصابة المرضى بهذه الإعاقات”.
بالإضافة إلى ذلك، ادعى هارتونغ أن مجال الذكاء العضوي يمكن أن يؤدي أيضا إلى تطوير علاجات جديدة للاضطرابات العصبية مثل الخرف أو مرض الزهايمر. ويتطلب تطوير أجهزة الكمبيوتر الحيوية إجراء بحث في “بيولوجيا التعلم والذاكرة والوظائف المعرفية الأخرى”. سيسمح هذا للعلماء باستخدام عضيات الدماغ لاختبار عقاقير وعلاجات جديدة للتدهور المعرفي.
بالطبع، عندما تتعامل مع ما هو في الأساس أدمغة صغيرة، ستبرز الكثير من الأسئلة الأخلاقية الكبيرة التي يجب مراعاتها. يجب معالجة القضايا المتعلقة بالإحساس المحتمل أو الوعي الذاتي مع أجهزة الكمبيوتر الحيوية، مما يثير التساؤل عما إذا كان يجب متابعة شيء من هذا القبيل أم لا.
ماذا يعني أن الكمبيوتر الذي تستخدمه هو في الأساس إنسان داخل الجهاز؟ هل يمكن أن يعاني من “الألم”؟ ما الذي نعتبره حساسا عندما يتعلق الأمر بأجهزة الكمبيوتر على أي حال؟ والأهم من ذلك، ماذا يحدث عندما يتجاوز كمبيوتر حيوي هذا الخط؟
ويقول هارتونغ “لا توجد تكنولوجيا دون عواقب غير مقصودة قد تنجم عنها. من الصعب استبعاد مثل هذه المخاطر، طالما أن البشر يتحكمون في المدخلات والمخرجات. تبرز المشكلة من اللحظة التي نمنح فيها الذكاء الاصطناعي والذكاء العضوي استقلالية”.
لن يشكل الذكاء العضوي وأجهزة الكمبيوتر الحيوية تهديدا للذكاء الاصطناعي أو للعقل البشري على المدى القريب. لكن هارتونغ يعتقد أن الوقت قد حان للبدء في زيادة إنتاج عضيات الدماغ وتدريبها على الذكاء الاصطناعي، من أجل اختراق بعض أوجه القصور في أنظمة السليكون الموجودة لدينا.
“سوف يستغرق الأمر عقودا قبل أن نحقق شيئا يمكن مقارنته بأي نوع من أجهزة الكمبيوتر. ولكن، إذا لم نبدأ في البحث منذ الآن عن برامج تمويل، سيكون الأمر أكثر صعوبة”.