نشر مصرف لبنان مؤخراً مراجعته الدوريّة لأرقام الاقتصاد الكلّي في لبنان، في تقريرٍ موسّع يتألف من 44 صفحة. وشملت المراجعة مؤشّرات مختلفة ومتنوّعة: من نسب النمو، إلى أداء القطاعات المختلفة، وصولاً إلى الأوضاع النقديّة وأرقام ميزان المدفوعات والإصلاحات الهيكليّة الجارية. بعض هذه المؤشّرات تشير إلى وقائع بالغة الأهميّة، من جهة تأثيرها على مسارات التصحيح المالي والاقتصادي الجارية. أمّا بعضها الآخر، فيحتاج إلى تدقيق ومراجعة، بل وربما إعادة نظر، أمام اعتماد المصرف المركزي أدوات غير مألوفة لإعداد بعض البيانات.
تحليل أرقام التضخّم
يستند التقرير إلى أرقام إدارة الإحصاء المركزي، ليخلص إلى أنّ نسبة التضخّم انخفضت في أواخر شهر حزيران إلى حدود 19.3%، ما يشكّل انخفاضاً لافتاً مقارنة بالفترة السابقة. مع الإشارة إلى أنّ هذه النسبة كانت تقارب 121.6% قبل سنة واحدة بالضبط.
ويربط التقرير هذا الانخفاض بجملة من العوامل، منها ثبات سعر الصرف منذ منتصف عام 2023، وهو ما لجم ارتفاع الأسعار الناتج عن غلاء السلع المستوردة. كما يرى التقرير أنّ مصرف لبنان كان له دور في وقف التمويل النقدي للحكومة ودعم سعر الصرف، وهو ما أرسى استقراراً أكبر في سوق القطع. وبالتوازي، ارتفعت نسبة العمليات التجاريّة الجارية بالدولار النقدي، والتي تحيّد تأثير أي اضطراب في سعر صرف الليرة اللبنانيّة.
ورغم الانخفاض النسبي في نسبة التضخّم، لا تزال هذه النسبة مرتفعة قياساً إلى سوق يشهد ثباتًا في سعر الصرف. وهذا ما يلحظه التقرير الذي يتحدث عن “ضغوط تضخميّة مستمرّة في الخدمات الأساسيّة”، وهو ما يؤثّر على ميزانيّات الأسر. ويفنّد التقرير أسباب هذه الضغوط التضخّمية في أربعة قطاعات أساسيّة:
– التعليم: الذي شهد زيادة أسعار بنسبة 50.43%، بسبب دولرة الأقساط وزيادة أكلاف التشغيل وانخفاض الإنفاق العام على التعليم الرسمي.
– الإسكان: الذي شهد زيادة أسعار بنسبة 28.11%، بسبب الطلب على المساكن بعد الحرب، والمعروض المحدود من الوحدات السكنيّة.
– الخدمات الصحيّة: التي شهدت زيادة أسعار بنسبة 20.9%، بسبب تداعيات الحرب والاضطرابات في سلاسل التوريد، بالإضافة إلى زيادة الطلب على الاستشفاء.
– الغذاء: الذي ارتفعت أسعاره بنسبة 21.57%، لأسباب تتصل باضطرابات سلاسل التوريد في الخارج وانخفاض الإنتاج الزراعي والقيود على تمويل المساعدات الإنسانيّة.
بهذا الشكل، يتحدّث التقرير عن نقطة تحوّل حصلت عام 2024، مع الانخفاض الواضح والسريع في نسبة التضخّم، لكنّه يتحدّث في الوقت نفسه عن هذه العوامل الأربعة، بوصفها محرّكاً أساسياً للتضخّم في الوقت الحالي.
فوائض ميزان المدفوعات
من المعلوم أن مصرف لبنان يشير، منذ بداية العام الحالي، إلى تسجيل لبنان فوائض في ميزان المدفوعات السنة الماضية، وبقيمة تناهز الـ 4.43 مليار دولار أميركي. وعلى النحو نفسه، يتحدّث التقرير عن فوائض كبيرة في الحساب المالي في ميزان المدفوعات، بقيمة تتجاوز 10.3 مليار دولار أميركي. ويربط التقرير هذه الفوائض الكبيرة بفقدان الثقة الطويلة الأجل من جانب المستثمرين، وعدم اليقين على المدى القصير، ما يؤدّي إلى هذا النوع من التقلّبات.
غير أن مشكلة هذه الأرقام تكمن في اعتماد مصرف لبنان -منذ العام 2023- على أدوات غير تقليديّة لاحتساب هذا المؤشّر. فميزان المدفوعات يفترض أن يعكس التبادلات الماليّة بين لبنان والخارج، في حين أنّ المصرف المركزي عمد إلى تضمين المؤشّر فوائض ناتجة عن انخفاض قيمة الودائع بالليرة اللبنانيّة، وهي التزامات على المصارف، بسبب انخفاض سعر صرف الليرة. بهذا الشكل، لم تعد أرقام المؤشّر تعكس تداولات ماليّة فعليّة، كما يفترض أن يكون الحال.
خلال العام الحالي، لم يختلف الوضع. إذ تتحدّث أرقام مصرف لبنان حالياً عن فائض بقيمة 10.07 مليار دولار أميركي سجّله هذا المؤشّر، في حين أن التدقيق في الأرقام يُظهر أن المصرف ضمّن البيانات الزيادة في قيمة احتياطات الذهب التي يملكها أساساً، وهو ما لا يشكّل تبادلات ماليّة أو نقديّة فعليّة مع الخارج. وللقيام بهذه المقاربة غير التقليديّة، استند المصرف إلى تفسير غير مألوف لمعايير صندوق النقد بخصوص طريقة قيد الزيادات في قيمة احتياطات الذهب.
الإصلاحات الهيكليّة والماليّة
يستعرض التقرير في قسم خاص الإصلاحات الهيكليّة التي طرأت على النظام المالي خلال الفترة الماضية، والتي تشمل:
– تعديل قانون السريّة المصرفيّة، الذي وسّع صلاحيّات مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف والمؤسسة الوطنية لضمان الودائع للوصول إلى معلومات كانت محمية بالسرية المصرفية. كما سمح القانون بإلغاء السريّة المصرفيّة بأثر رجعي يصل إلى 10 سنوات، فضلاً عن السماح بتبادل المعلومات بين الهيئات الرقابية بهدف الشفافية ومكافحة الجرائم المالية.
– إقرار قانون إصلاح أوضاع المصارف، الذي يتضمن 37 مادة لتنظيم إعادة هيكلة أو تصفية المصارف، ولو أنّ تنفيذه ظلّ مربوطاً بإقرار قانون الاستقرار المالي (أو قانون الفجوة الماليّة).
– تحديث نظام المراقبة المالية عبر التعميم الوسيط رقم 692 الصادر في شباط 2024، بهدف إلزام المصارف بإنشاء وحدات امتثال متخصصة لمكافحة الفساد والرشوة.
– التعميم 168 في حزيران 2024، الذي ألزم المصارف بتحديث بيانات المساهمين والمديرين وربطها بلوائح العقوبات المحلية والدولية.
– التعميم رقم 29 من هيئة التحقيق الخاصة الصادر في آذار 2025، الذي ألزم شركات الذهب والمجوهرات بتطبيق إجراءات الامتثال المالي واستخدام تطبيق إلكتروني للتحقق من لوائح العقوبات.
– تشجيع التحوّل الرقمي في المصارف، عبر التعميم 133 الذي سمح برقمة أعمال المصارف، والتعميم 146 الذي أجاز التعريف الإلكتروني وتم اعتماده بالكامل منذ عامين.
حجم الاقتصاد المحلّي
يشير التقرير إلى أنّ الناتج المحلي الإجمالي سجّل انكماشًا بنسبة 6.4% في عام 2024، ما يؤكد عمق الأزمة التي شهدها البلد نتيجة الحرب مع إسرائيل بين أيلول وتشرين الثاني من ذلك العام، إضافة إلى ضعف الاستهلاك الخاص وتراجع السياحة والإنتاج. هذا الانكماش، جاء امتداداً لفترة طويلة من التراجع الاقتصادي المستمر منذ عام 2019، والتي قلّصت حجم الاقتصاد اللبناني إلى ما يقارب 28 مليار دولار أميركي في عام 2024، بعد أن كان يناهز 53.2 مليار دولار في عام 2019، أي ما يعني أن الناتج تقلّص بأكثر من النصف خلال خمس سنوات فقط.
أما في عام 2025، فيشير التقرير إلى أن لبنان بدأ يتعافى تدريجيًا من حالة الركود. ومن المتوقّع أن تسجّل البلاد نمواً حقيقيًا متواضعًا مدفوعاً بالتحسّن السياسي بعد انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة جديدة، وهي خطوات ساهمت في استعادة جزء من الثقة الداخلية والخارجية. كما ساعدت عودة السياحة والاستهلاك الداخلي، بدعم من التحويلات المالية القادمة من المغتربين، في تحريك الدورة الاقتصادية ولو بشكل محدود.
ويقدّم التقرير بعض الملاحظات للتأكيد على نسبة النمو المحدودة المتوقّعة: حيث ارتفعت تسليمات الإسمنت بنسبة 39%، ورخص البناء بنسبة 18%، وإيرادات الجمارك بنسبة 128% في النصف الأول من عام 2025 مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق. وهذه المؤشرات تعكس بداية مرحلة استقرار نسبي بعد التقلّص الحاد في 2024، رغم أن مستويات النشاط لا تزال بعيدة عن مستويات ما قبل الأزمة.
في النتيجة، يُظهر التقرير أن الاقتصاد اللبناني سجّل عام 2025 نقطة تحوّل حذرة، مقارنة بالسنوات الماضية. فالبلاد عادت إلى مرحلة النمو، إنما بمستويات ضئيلة ومحدودة، وبأفق مرهونة باستمرار الاستقرار السياسي وتنفيذ الإصلاحات الهيكليّة. وهذه النظرة، تتقاطع مع تقرير البنك الدولي الأخير، الذي تحدّث أيضاً عن علامات انتعاش بسيطة، لكنّه أشار إلى ضرورة استكمال الإصلاحات للانتقال إلى مرحلة مستدامة من النمو في المستقبل.



