بات أمراً عابراً الحديث عن الواقع المالي للدولة بعد 5 سنوات من انطلاق الانهيار النقدي والمالي وما نجم عنه من تداعيات اقتصادية واجتماعية. أما الحديث عن استعادة الثقة الخارجية بعد خسارتها في العام 2020 بفعل قرار عدم سداد مستحقات حملة سندات اليوروبوندز، فهو ضرب من التَرَف الفكري في ظل أولوية البحث عمّا ستؤول إليه الأمور في أعقاب الحرب الإسرائيلية التي يواجهها لبنان منذ 8 تشرين الأول 2023. ومع ذلك، فالآثار الاقتصادية والمالية والنقدية لا تختفي بتبدُّل الأولويات، إذ أنها مرتبطة بواقع مؤسسات الدولة والإدارة المالية التي تتمّ عن طريق وزارة المالية. والوزارة اليوم غير قادرة على تنظيم مالية الدولة في ظل غياب الأرقام. هذا الأمر ليس تفصيلاً بسيطاً، سيّما إذا لحظَتْه مؤسسات التصنيف الائتماني الدولية. فبعد إعلان وكالة فيتش Fich للتصنيف “التوقّف عن إصدار تصنيفات للبنان لعدم وجود معلومات” عن أوضاع البلاد المالية والنقدية، تصدر وكالة ستاندرد أند بورز تقريرها النصف سنوي لتصنيف لبنان، والذي تضمّن الإبقاء على الواقع الراهن مع التخوّف من انعكاسات المخاطر الأمنية. والأهم، هو النظرة غير المتفائلة تجاه إجراء الإصلاحات.
المؤشرات السلبية ذاتها
وضعت وكالة ستاندرد أند بورز في تقريرها الصادر يوم الإثنين 19 آب، تصنيف لبنان الائتماني بالعملة الأجنبية عند مستوى SD أي التخلّف الانتقائي عن سداد الديون، انطلاقاً من توقّف الحكومة عن سداد ديونها بالعملة الأجنبية منذ آذار 2020. وأشارت إلى أنها “سترفع التصنيف بالعملة الأجنبية على المدى الطويل عند اكتمال إعادة هيكلة الديون التجارية للحكومة. وسوف يعكس التصنيف المستقبلي الجدارة الائتمانية للبنان بعد إعادة الهيكلة، مع الأخذ بالاعتبار عبء الديون وآفاق السياسة الاقتصادية”.
وفي المقابل، جاء التصنيف بالعملة المحلية، عند مستوى CC. ورأت الوكالة إن “التوقعات على المدى الطويل تعكس وجهة نظرنا بأن الحكومة قد تعيد هيكلة ديونها بالعملة المحلية كجزء من برنامج واسع النطاق. كما تعكس التوقعات أنَّ أوجه القصور في القدرة الإدارية للقطاع العام قد تشكل مخاطر على خدمة الديون في الوقت المناسب”.
وأضافت الوكالة أنه “يمكننا خفض التصنيف بالعملة المحلية إلى SD إذا كان برنامج إعادة هيكلة الديون يتضمن تخفيضات أو تمديدات لاستحقاق الديون بالعملة المحلية. كما يمكننا خفض التصنيف إذا فشلت الحكومة في سداد أصل الدين بالعملة المحلية أو مدفوعات الفائدة إلى أحد الدائنين التجاريين، على سبيل المثال بسبب القيود الإدارية. ورغم أن هذا ليس السيناريو الأساسي لدينا، فإننا نعتقد أن السيناريو الأخير يظل احتمالاً قائماً نظراً لعدم الاستقرار السياسي الداخلي المستمر في لبنان”.
ورغم النظرة المتشائمة، انعكاساً للواقع السياسي والاقتصادي والأمني والإداري الذي يعيشه لبنان، أكّدت الوكالة أنه “يمكننا مراجعة التوقعات إلى مستقرة أو رفع التصنيف بالعملة المحلية إذا رأينا أن احتمالات التبادل المتعثر للديون التجارية بالعملة المحلية للبنان قد انخفضت، في حين تعززت عملية صنع السياسات الاقتصادية المحلية”. وهذا يعني أن على وكالة التصنيف التماس استمرار لبنان بالإصلاحات، وهو أمر غير وارد في الوقت الحالي.
لا أرقام لدى وزارة المالية
وتعليقاً على التقرير، أكّدت وزارة المالية أن “هذا التقرير النصف السنوي جاء في إطار عملية التصنيف الائتماني مع مؤسسة التصنيف العالمية ستاندرز آند بورز S&P، والمراجعة الدورية للتصنيف، وجاء في اختتام اجتماعات ومناقشات ما بين S&P والفعاليات المحلية والجهات المعنية بعدما نسّقت وزارة المالية أخيراً سلسلة من الاجتماعات بينها وبين المؤسسة، وبين الأخيرة والجهات المعنية في لبنان، ومنها مصرف لبنان، لتمكين S&P من تقييم الأوضاع والإدلاء بالتصنيف الذي يعكس الصورة الواقعية للاوضاع المالية والنقدية والاقتصادية في البلاد”.
وأضافت أنه “من خلال سلسلة من الاجتماعات، خصوصاً تلك التي عُقدت مع وزارة المالية، ورغم التحديات القائمة لناحية صعوبة نشر الأرقام، سعت الوزارة إلى تزويد المؤسسة بالمعطيات المتوفّرة حول التطورات على صعيد المالية العامة في ما خص وضعية الدين العام، والإدلاء بكافة التوضيحات اللازمة لإفساح المجال لمؤسسة التصنيف من القيام بعملية التقييم بأفضل الظروف، الأمر الذي لم يحصل مع مؤسسة فيتش Fich”.
وإزاء ضعف المعطيات والأرقام المتوفّرة، لفتت الوزارة النظر إلى أن الضعف يأتي بفعل “العوائق الإدارية من ناحية الامكانيات البشرية والتكنولوجية التي تقلّصت لدى وزارة المالية على أثر الازمات الخانقة التي مرّت بها البلاد”، إلى جانب “التقلبات الحادة في أسعار الصرف. كما وأن تعدد أسعار الصرف خلال الأعوام السابقة حال دون امكانيّة الوزارة نشر أرقام تعكس الواقع الحقيقي. ولهذا تبذل وزارة المالية الجهود كافة لإزالة العوائق، حتى تتمكن من إعادة نشر الوضعية المالية شهرياً وفق المعايير المعتمدة دولياً، وذلك بمساعدة من الجهات المموّلة ومساندة من أختصاصيين في هذا المجال”.
وأشارت الوزارة إلى أنها “أطلعت مجلس الوزراء على أسعار الصرف التي تعتمدها المحاسبة العامة لتسجيل الايرادات والنفقات في القيود المحاسبية، بغية انجاز عملية قطع الحساب عن السنوات السابقة ونشر أرقام المالية العامة الأقرب الى الواقع من دون إحداث فروقات قطع تشوّه صحتها”. (راجع المدن).
أرقام خاطئة والنتيجة واحدة
خيار وكالة ستاندرد أند بورز الاستمرار بالتصنيف على عكس وكالة فيتش، يعني أنها تخوض في أرقام مبهمة غير صادرة عن وزارة المالية التي تدير صيغة مالية عمياء لبلد يعيش واقعاً لا يُحسَد عليه. وهذا القرار، أوقَعَ ستاندرد أند بورز في الكثير من الأخطاء، وفق ما يؤكّده رئيس وحدة الدراسات في بنك بيبلوس، والخبير الاقتصادي نسيب غبريل، الذي يشير في حديث لـ”المدن” إلى أن الوكالة أوردت في تقريرها “أرقاماً خاطئة رغم أن وزارة المالية قدّمت أرقامها بالإضافة إلى أرقام صندوق النقد الدولي”. وعلى سبيل المثال “أوردت الوكالة أن الناتج المحلي الإجمالي بالدولار للعام 2021 هو 14.5 مليار دولار فيما هو في الحقيقة 19.8 مليار دولار. وكذلك أوردت أن الناتج في العام 2022 بلغ 16 مليار دولار في حين أن صندوق النقد الدولي رفع الرقم إلى 20 مليار دولار. والخطأ في تحديد الناتج المحلي ينعكس على احتساب عجز الدين العام والحساب الجاري الخارجي ونسبة الدين العام بالعملات الأجنبية ككل ونسبة الصارات… وغير ذلك”. على أن تصحيح تلك الأرقام لا يغيِّر الواقع. ولذلك، لا يختلف غبريل مع الوكالة في “الفكرة العامة وتحليل الواقع المتعلّق بغياب الإصلاحات وبوجود عوائق سياسية ومخاطر جيوسياسية”.
ورغم الواقع السلبي لا انعكاسات جدية لمضمون التقرير “فلا شيء جديد في لبنان”. وبالتوازي، يستغرب غبريل عدم التحرّك نحو بدء التفاوض مع حَمَلَة سندات اليوروبوند بوصفه شرطاً أساسياً من شروط توقيع الاتفاق النهائي مع صندوق النقد ومدخلاً للخروج من الأزمة إلى جانب الشروط الأخرى التي وضعها الصندوق.
وعدم الإقدام سابقاً على أي فعل إصلاحي، يؤكّد عدم وجود أي تغيير في سيناريو السقوط الذي كان واضحاً قبل العام 2019. وكما لم تكترث السلطة بنتائج سياساتها المالية والنقدية قبل بدء الانهيار، لا تكترث اليوم لضرورات الإصلاح.