شبح «سوليدير» يخيّم على سكان المناطق المنكوبة جراء كارثة مرفأ بيروت. يخشى هؤلاء من أن يكون الانفجار بداية درب جلجلة طويل يقود إلى تهجيرهم. تبليغات الاخلاء والتحذير من الانهيارات تزيد من ريبتهم، لذلك آثر بعضهم الاقامة بين الركام خشية أن يكون الخروج في انتظار إعادة الاعمار… «بلا عودة»
لا أرقام دقيقة، حتى الآن، عن عدد الأشخاص الذين فقدوا منازلهم في بيروت. محافظ العاصمة مروان عبود قدّر العدد بـ 200 إلى 250 ألفاً، فيما أشار البنك الدولي الى أن نحو 300 ألف أصبحوا بلا مأوى. التضارب في الأرقام يدفع كثيرين الى التشكيك، والخشية من «تضخيم» الأعداد لغايات «غير بريئة».
«الأرقام المطروحة مبالغ فيها. وبحسب مشاهداتنا، فإن الكثير من المنازل تحتاج إلى إجراءات بسيطة وسريعة مثل تدعيم الحيطان كي لا تنهار، وبما يضمن عدم مغادرة السكان»، بحسب منى فواز، مديرة «برنامج العدالة الاجتماعية والمدينة» في معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت. «والأخطر هو طريقة التعاطي التي تساهم في زيادة عدد الأشخاص الذين يتركون المنطقة». فواز أكدت أن «الأولوية يجب أن تكون لإبقاء أكبر عدد من العائلات في منازلها، قبل مسح الأضرار والبحث في كيفية تأمين التمويل».
طلب القوى الأمنية من السكان الذين يرفضون مغادرة عقاراتهم توقيع بلاغات تفيد بمسؤوليتهم عن كل ضرر يمكن أن ينتج عن رفض الاخلاء، كان موضع انتقاد. ووفق الباحثة المدينية في «استوديو أشغال، مرصد السكن» نادين بكداش، فإن «آلية تحديد المباني المهددة بالانهيار غير واضحة وتثير التساؤلات»، ما يدفع سكاناً كثراً الى التمسك بالبقاء في منازلهم «لعدم اقتناعهم بأنها مهددة بالانهيار، ولتخوفهم من خسارة عقاراتهم في حال المغادرة». بكداش، أيضاً، أكدت أن «منازل كثيرة في المناطق المتضررة لا تحتاج إلى إخلاء ويمكن تدعيمها بشكل سريع».
مخاوف السكان المنكوبين «لها مبرراتها التاريخية»، بحسب فواز، مذكّرة بمسار إعادة الإعمار في وسط بيروت الذي دمرته الحرب «وأتت إعادة الإعمار لتكرس فراغه وعدم ارتباطه بمحيطه. فكل عملية إعادة إعمار شهدها لبنان أتت لتستكمل ما بدأته الحرب». علماً أن الكثير من سكان المناطق الأكثر تضرراً هم من المستأجرين القدماء الذين لطالما شابت المشاكل علاقتهم مع المالكين. ووفقاً لبكداش، «فكرة احتمال انهيار المباني إحدى ابرز الحجج التي كان لطالما ساقها المالكون لاخراج المستأجرين، وهذه الأزمة قد تكون فرصة لكثيرين لتحقيق ما عجزوا عن إنجازه سابقاً». أضف الى ذلك، «هواجس من استغلال هذا الظرف لاتمام عمليات بيع عقارية بشكل واسع، وهو ما قد يحفزه إقدام كثيرين على شراء العقارات في الأشهر الماضية كوسيلة لتحرير ودائعهم المحتجزة في المصارف»، بحسب فواز.
إطالة عملية إعادة الإعمار تسهل اندماج السكان في مناطق أخرى وتغيير النسيج الاجتماعي في بيروت
خلافاً لمن اختاروا البقاء بين الركام، غادر كثيرون المناطق المنكوبة بحثاً عن مساكن بديلة. بعضهم قصد «غرفة الطوارئ المتقدمة» لمتابعة الأوضاع الانسانية والإنمائية في المنطقة المنكوبة في قيادة الجيش، والتي أعلنت أنها ستقوم «بتنسيق عملية تأمين مساكن بديلة للمواطنين الذين أصيبت منازلهم بأضرار بالغة ويتعذر عليهم الإقامة فيها كونها مهددة بالانهيار…». وعن المقصود بـ«الأضرار البالغة» ومن بإمكانه الاستفادة من المساكن البديلة، كان جواب مصدر في الغرفة بأن «الأمر لا يقتصر على المنازل المهددة بالانهيار بل كل من تضرر من الانفجار ولا يملك مسكناً بعد إبراز إفادة من المختار». وأكد أن المنازل «متوفرة في مختلف المناطق ويفوق عددها الـ 300 وهي في ازدياد في كل لحظة». علماً أن اعتماد التقديرات الرسمية لعدد من باتوا بلا مأوى يعني أن عدد المنازل في حوزة غرفة الطوارئ قليل جداً نسبةً الى عدد العائلات التي ستحتاج إلى مساكن بديلة.
الى ذلك، شهد الطلب على شقق الإيجار زيادة ملحوظة أخيراً خصوصاً في محافظة جبل لبنان. غياب الدولة يمكن أن يستغل من بعض المالكين لتحقيق مكاسب من حاجة الضحايا إلى سقف يؤويهم. فواز شدّدت على ضرورة السعي الى «منع المضاربة والحد من الجشع. فالشغور في المساكن كبير. وإذا احتكمنا إلى منطق السوق والعرض والطلب، لا يجب أن نشهد زيادة كبيرة في أسعار الإيجارات لأن الاحصاءات تشير الى أن هناك شقة فارغة بين كل 5 شقق في بيروت، وهناك أحياء مثل رأس بيروت نسبة الشغور فيها مخيفة». أما الخشية الأكبر فهي من أن تطول مدة إعادة الإعمار، وأن يعتاد المنكوبون على السكن في مناطق أخرى ويندمجوا فيها، وهو ما قد يسهّل عملية تغيير النسيج الاجتماعي في بيروت.