يمثّل ميزان المدفوعات أحد أهم المؤشّرات الاقتصاديّة، التي تعكس تحوّلات الحركة الماليّة المتدفّقة من وإلى النظام المالي في أي بلد. هو ببساطة، صافي التحويلات التي تتم بين المقيمين في أي دولة، والمقيمين خارجها، إذ يسجّل المؤشّر عجزًا عندما يتجاوز حجم التحويلات الخارجة من البلاد نظيرتها الواردة، وفائضًا حين يحصل العكس، ليمثّل الفائض أو العجز الفارق بين القيمتين.
وعلى هذا النحو، مثّلت العجوزات المتتالية في ميزان المدفوعات اللبناني بين عامي 2011 و2019، باستثناء سنة 2016، أولى المؤشّرات التي دلّت على اتجاه البلاد نحو أزمة ماليّة ونقديّة خانقة. فالبلاد اعتمدت تاريخيًا على التحويلات الخارجيّة –قبل عام 2011- لحماية النموذج الذي يجمع الاقتصاد الريعي بتثبيت سعر الصرف والمدنيونيّة العامّة المتضخّمة، فيما أشّرت عجوزات ميزان المدفوعات بعد 2011 لاقتراب نهاية هذا النموذج.
بعد حصول الانهيار المالي في أواخر عام 2019، كان من البديهي أن يستمرّ ميزان المدفوعات بتسجيل عجوزات كبيرة، نظرًا لانعدام التحويلات الواردة إلى النظام المالي، بسبب الأزمة المصرفيّة، واستمرار الاستنزاف في الاحتياطات طوال السنوات الماضية. إلا أنّ المفاجأة كانت هذه السنة، بتسجيل ميزان المدفوعات –بحسب أرقام مصرف لبنان- فائضًا بقيمة 1.07 مليار دولار، في الأشهر الثمانية الأولى من العام، مقارنة بعجز قيمته 3.1 مليار دولار في الفترة المماثلة من العام الماضي، و2.37 مليار دولار في الفترة المماثلة من العام 2021. وهكذا، ثمّة ما يدفع إلى السؤال عن مصدر هذه الأموال التي خلقت هذا الفائض، خصوصًا أن أرقام ميزان المدفوعات لا تعكس سوى الحركة التي تمر عبر النظام المالي، العاجز حاليًا عن استقطاب أي أموال جديدة!
الأرقام المريبة
ثمّة ما هو مريب في الأرقام التي يعلن عنها مصرف لبنان، بخصوص ميزان المدفوعات. فخلال الأشهر الثمانية الأولى من السنة، سجّلت الموجودات الخارجيّة الصافية لدى المصرف المركزي، أي الموجودات ناقص الإلتزامات بالعملة الصعبة، تراجعًا بقيمة 1.3 مليار دولار، وهو ما يفترض أن يدخل في حساب مؤشّر ميزان المدفوعات.
أمّا سيولة المصارف الجاهزة بالعملات الأجنبيّة، أي أرصدتها لدى المصارف المراسلة، فلم تنمُ إلا بنحو 0.2 مليار دولار، وهو ما لا يكفي حتمًا لتعويض التراجع في الموجودات الخارجيّة الصافيّة لدى المصرف المركزي. من أين أتى فائض ميزان المدفوعات الضخم هذا، طالما أن المؤشّر لا يتحسب سوى صافي موجودات مصرف لبنان والمصارف التجاريّة، أي الفارق بين موجودات وإلتزامات القطاع مجتمعًا؟
الدخول أكثر في الأرقام، يُظهر ما هو أكثر غرابة. ما خلق الفائض في مؤشّر ميزان المدفوعات هو تراجع قيمة إلتزامات المصارف التجاريّة بمقدار 3 مليار دولار، وهو ما زاد صافي الموجودات الخارجيّة لدى المصارف التجاريّة، أي الفارق بين إلتزاماتها وموجوداتها، بشكل موازٍ. وبما أنّ ميزان المدفوعات ينتج عن احتساب صافي الموجودات الخارجيّة للمصارف ومصرف لبنان معًا، أدّت هذه التحوّلات إلى خلق الفائض الغريب في الميزان هذه السنة.
لكن هذا التفسير يزيد من الإلتباس ولا يعالجه: فمن أين أتت المصارف التجاريّة، في الأشهر الثمانية الأولى من السنة، ب 3 مليار دولار لتسدد جزء من إلتزاماتها في الخارج، ولترفع بذلك صافي موجوداتها الخارجيّة، أي الفارق بين الموجودات والإلتزامات، وليتحقق بذلك هذا الفائض في ميزان المدفوعات؟
الخديعة الكبرى
البحث في الأرقام، يكشف الخديعة الفعليّة. المصارف لم تأتِ ب3 مليار دولار من السيولة الجاهزة، ولم تسدّد أي إلتزامات فعليّة قائمة، ولم يحقق ميزان المدفوعات أي فائض يُذكر. بكل بساطة، وبمجرّد اعتماد سعر الصرف الجديد المرتفع هذه السنة، أي 15 ألف ليرة بدل 1507.5 ليرة للدولار، تقلّصت تلقائيًا إلتزامات المصارف للمودعين غير المقيمين بالليرة اللبنانيّة، عند احتسابها بالدولار الأميركي. أي أنّ المصارف خفّضت القيمة الدفتريّة المصرّح عنها لهذه الإلتزامات، من دون أن تشهد ميزانيّات المصارف أي حركة ماليّة تُذكر مقابل هذا التغيير.
وبهذا الشكل، انخفض إجمالي إلتزامات المصارف المصرّح عنها للخارج، وارتفع في المقابل صافي موجوداتها الخارجيّة (فرق الإلتزامات والموجودات)، وتم تسجيل فائض في ميزان المدفوعات. وهذا الفائض، لا يمثّل بالفعل أي تحويلات ماليّة حقيقيّة، وهو ما يُفترض أن يقيسه هذا المؤشّر بالفعل، بل يمثّل بضعة ألاعيب وتغيّرات دفتريّة لا أكثر. ببساطة، أرقام ميزان المدفوعات الحاليّة لا تعكس مفهومه الاقتصادي الحقيقي، القائم على تلخيص الحركة الماليّة بين لبنان والخارج.
إذ عالجنا هذه الحيلة المحاسبيّة، وقمنا باحتساب أرقام ميزان المدفوعات من دون التلاعب بسعر الصرف المعتمد لقياسه، فسيتبيّن لنا أن ميزان المدفوعات سجّل خلال الأشهر الثمانية الأولى من السنة الراهنة عجزًا بقيمة 2 مليار دولار، أي ما يقارب ال65% من حجم العجز الذي تم تسجيله في الفترة المماثلة من العام الماضي (ولم يسجّل ميزان المدفوعات فائضًا بقيمة 1.07 مليار دولار كما تشير أرقام مصرف لبنان).
إشكاليّة التلاعب بأرقام ميزان مدفوعات لا تقتصر على مصداقيّة أرقام مصرف لبنان، ولا على ثقة الجمهور بهذه الأرقام، التي يفترض أن تعكس وضعيّة البلاد الماليّة والنقديّة. الإشكاليّة الأساسيّة هي أنّ هذه الأرقام تمثّل آخر ما يمكن الركون إليه، لدراسة التحوّلات الاقتصاديّة الهامّة الراهنة، وهو ما يفترض أن يتم الاستناد إليه لصياغة السياسات العامّة والأبحاث والمعالجات الماليّة، من قبل الإدارات الرسميّة أو الجهات غير الحكوميّة أو المنظمات الدوليّة. أمّا عند العبث بهذه الأرقام، التي تنشرها السلطة النقديّة الوحيدة في البلاد، فلا يمكن الركون إلا إلى التكهّنات والافتراضات.