أظهرت بيانات مصرف لبنان الأخيرة اشتداد الضغط على الدولارات المتبقية داخل النظام المالي في لبنان، بعد أن ارتفع عجز ميزان المدفوعات منذ بداية السنة، ولغاية شهر آب الماضي، إلى نحو 3.1 مليار دولار، مقارنة بـ2.36 مليار دولار فقط خلال الفترة المماثلة تمامًا من العام الماضي. وبذلك، يكون ميزان المدفوعات قد استمرّ لغاية الشهر الثامن من هذه السنة بتسجيل الارتفاعات القاسية نفسها في قيمة عجوزاته، في استكمال للمسار الذي بدأه منذ بداية العام الحالي، نتيجة تضخّم أسعار المواد الأساسيّة في الأسواق العالميّة (راجع المدن). مع الإشارة إلى أنّ ميزان المدفوعات يختصر الفارق ما بين الدولارات الصادرة والواردة إلى النظام المالي اللبناني، بما يشمل حسابات المصارف ومصرف لبنان معًا.
المنصّة وموجودات مصرف لبنان
انعكس هذا التطوّر تلقائيًّا على صافي الموجودات الخارجيّة لمصرف لبنان، التي تختزل الفارق بين إلتزامات المصرف وموجوداته بالعملة الصعبة، والتي تراجعت خلال الفترة نفسها (أي الأشهر الثمانية الأولى من العام) بنحو 3.5 مليار دولار. وكما بات معلومًا، ارتبط هذا الاستنزاف المستمر في موجودات مصرف لبنان بقيمة الدولارات التي يجري ضخّها عبر منصّة صيرفة، لضبط سعر صرفها، والذي ما زال يُعتبر سعرًا مدعومًا قياسًا بسعر السوق الموازية. فلغاية يوم الجمعة الماضي مثلًا، كانت منصّة صيرفة تسجّل معدّل سعر صرف يوازي 29,800 ليرة للدولار، في حين أن سعر صرف السوق الموازية يتجاوز اليوم حدود 39,600 ليرة للدولار (ما يعني أن سعر صرف السوق السوداء يوازي 1.32 مرّات سعر صرف المنصّة).
وبذلك، تؤكّد كل هذه المؤشّرات -مرّة جديدة- حقيقتين لا يمكن الهروب منهما: تحوّلت منصّة مصرف لبنان إلى مصدر استنزاف لدولارات النظام المالي، بدل أن تكون أداة تداول حر للدولارات. ثم تحوّل سعر صرفها إلى سعر مدعوم، لكن بآليّات تداول غير شفّافة إطلاقًا، بدل أن يمثّل سعر صرفها سعر الصرف الفعلي والواقعي لتداولات السوق بالعملة الصعبة. وهاتان الحقيقتان، تطرحان تلقائيًّا السؤال عن جدوى الاستمرار بتمويل المنصّة وفقًا لآليّات عملها الحاليّة، في الوقت الذي استنزفت فيه هذه المنصّة خلال ثمانية أشهر سيولة تتجاوز قيمتها القرض الذي يطلبه لبنان من صندوق النقد، والذي يفترض أن يتم صرفه خلال 46 شهرًا.
مصدر دولارات منصّة صيرفة
في جميع الحالات، تظهر بيانات مصرف لبنان في الوقت نفسه أنّ حجم تداولات منصّة صيرفة تجاوز -منذ بداية العام- حدود التسعة مليارات دولار. وإذا افترضنا أن نحو 3.5 مليار دولار -من أصل هذه القيمة- تم تمويلها من احتياطات مصرف لبنان، كما تظهر أرقام صافي الموجودات الخارجيّة، فسيكون بالإمكان الاستنتاج أنّ مصرف لبنان والمصارف احتاجا إلى امتصاص 5.5 مليار دولار من السوق مباشرة لتمويل قيمة التداولات الباقية.
مع الإشارة إلى أنّ المصرف المركزي يلجأ حاليًّا إلى امتصاص جزء من الدولارات التي يتم بيعها عبر المنصّة، إمّا عبر شرائها بسعر السوق الموازية من الصرّافين، أو عبر شرائها من شركة أو. أم. تي. وشركات التحويل الأخرى، فيما تقوم المصارف بشراء بعض الدولارات الطازجة من بعض الجمعيّات التي تستفيد من تحويلات واردة، والتي تمنعها تعاقداتها مع المانحين من العمل في السوق السوداء. وهذه الدولارات -إلى جانب دولارات الاحتياطي التي يضخها مصرف لبنان- هي ما يغذّي تداولات المنصّة، بما يحمّل مصرف لبنان كلفة خلق النقد بالليرة لشراء هذه الدولارات من السوق، في ظل عجز المنصّة -بسبب سعر صرفها المنخفض- عن استيعاب تداولات السوق الموازية.
من يستفيد من الفوضى النقديّة؟
على أي حال، تجدر الإشارة هنا إلى أنّ حجم الدولارات التي جرى بيعها عبر المنصّة، أي التسعة مليارات دولارات، كان من المفترض في الحالات العاديّة أن تغطّي كامل طلب التجّار على الدولار للاستيراد (إذا ما احتسبنا الفرق بين الواردات والصادرات). إلا أنّه وكما هو معلوم، ما زالت الغالبيّة الساحقة من عمليّات الاستيراد تتم من خلال شراء الدولارات من السوق الموازية، فيما يتم تسعير السلع المستوردة بسعر صرف السوق الموازية أيضًا.
بمعنى آخر، بددت المنصّة كل هذه الدولارات، بكلفة باهظة عبر استنزاف الاحتياطات وخلق النقد لشراء الدولار من السوق، من دون أن تتمكّن حتّى من تمويل استيراد السلع الأساسيّة، ما يطرح السؤال مباشرة عن هويّة المستفيدين من دولارات المنصّة المدعومة، وكيفيّة تحديد أولويّات بيع الدولار عبر المنصّة. ومرّة جديدة، يتبيّن أن المنصّة فاقمت أزمة سوق القطع، بدل أن تعالجها.
في خلاصة الأمر، وفي ظل الاشتداد المتوقّع لأزمة السيولة بالعملة الصعبة، التي ستنتج قريبًا عن ارتفاع أسعار النفط العالميّة، من المفترض أن يعيد مصرف لبنان حساباته جيّدًا، خصوصًا بالنسبة لكيفيّة إدارة سياسته النقديّة، وكيفيّة الانتقال إلى السعر الموحد للصرف، ولو وفق مراحل تأخذ بالاعتبار ضرورة تأمين الدولارات بسعر مضبوط لمستوردي المواد الأساسيّة. أمّا ما يجري اليوم، فلا يعدو كونه فوضى نقديّة موصوفة، لا يمكن إلا أن تنتهي بكارثة على مستوى قيمة العملة الوطنيّة.