أزمة الرواتب لن تُحَل قريباً.. وعدّاد الإضرابات يشتغل

طوى موظّفو الإدارة العامة يومهم الأوّل من إضراب أعلنوه لثلاثة أيام، ينتهي يوم غد الجمعة. ولكن يبدو أنّه لن يكون خاتمة الإضرابات، إذ قد يمهّد تقييم الإضراب الراهن، إلى الدخول في موجة تصعيد تتمثّل في مسار إضرابات متكرّرة، وقد تكون مفتوحة، “في انتظار أن تدرك السلطة أنّ ملف الرواتب والأجور يحتاج إلى إعادة نظر جذرية وعاجلة، بعيداً عن المماطلة والمشاريع غير الواقعية التي لا ترقى إلى مستوى الأزمة”، وفق ما تراه رابطة موظفي الإدارة العامة.

هذا الإضراب ليس الأوّل ولن يكون الأخير لمطلب ليس مستجداً، بل رافقَ مسار انهيار الليرة وتبخّرت معه قيمة الرواتب والأجور. وفي المقابل، تعترف السلطة السياسية بحقّ الموظّفين والمتقاعدين، لكنّها لا تترجم الاعتراف إلى أفعال تعيد لأصحاب الحقوق بعضاً من قيمة رواتبهم. ومع الوقت، يضيق أفق الحلّ.

اعتراف بالأزمة

مَلَّت شوارع العاصمة بيروت، وخصوصاً المنطقة الممتدة بين ساحتيّ الشهداء ورياض الصلح، من اعتصامات موظّفي القطاع العام، سواء مَن هم في الخدمة الفعلية أو المتقاعدين، فيما السلطة لم تملّ من المماطلة والتسويف، في كلّ مرّة يصعِّد فيها الموظّفون والمتقاعدون تحرّكاتهم للمطالبة بتصحيح رواتبهم وأجورهم، بدءاً من إعادة جزء من القيمة التي كانت عليها الرواتب حتى العام 2019، وإدخال التقديمات المعطاة اليوم في صلب الراتب، لتحتسب نسبتها في المعاشات التقاعدية وتعويضات الصرف.

ومنذ 5 سنوات تستمر الجهات الرسمية في مناقشة الملف واجتراح الحلول التي تراها مناسبة. وفي جلسة لجنة المال والموازنة النيابية، يوم الإثنين الماضي، أقرّ رئيس اللجنة النائب إبراهيم كنعان، أنّ هناك “إجحافاً كبيراً في حقّ موظّفي القطاع العام لجهة الرواتب والتعويضات غير الداخلة في أساس الراتب”. وأكّد أنّه “مصرّ على أن تؤمّن موازنة العام 2026 الحد الأدنى من العدالة لكل موظفي القطاع العام، من إداريين وعسكريين وسواهم، لأنهم يستحقون الإنصاف ويعملون باللحم الحي”.

صدى الأزمة وصل إلى الرئاسات الثلاث، وأفضت لقاءات الرابطة إلى الاعتراف بالأزمة ومزيد من الوعود. فرئيس الجمهورية جوزاف عون “تمنّى علينا في بداية فصل الصيف، تمرير هذا الفصل، وبعده نتحدّث في المشكلة، في حين أكّد رئيسا مجلس الوزراء ومجلس النواب نواف سلام ونبيه بري أنّ لنا حقوقاً، وكذلك فعل وزير المالية ياسين جابر، لكنه حسم القول بأنّه لا يوجد مال لدى الدولة”، وفق ما أكّده عضو الهيئة الإدارية لرابطة موظفي الإدارة العامة، المهندس إبراهيم نحّال، في حديث إلى”المدن”.

حلول وهمية

بالنظر إلى ما وصلت إليه قضية الرواتب والأجور، أصبح هناك ثلاثة اقتراحات للحل. الأوّل، وهو الأنسب للموظفين، يقوم على “العودة إلى رواتب ما قبل الأزمة مع إقرار سلسلة رتب ورواتب جديدة مرتبطة بسلّم متحرّك للأجور، ومؤشّر غلاء المعيشة وضمّ كل الزيادات إلى أساس الراتب”، وفق نحّال الذي أشار إلى أنّ الرابطة خفّضت سقف مطالبه،ا وتبنّت “الوعد الذي قطعه رئيس الحكومة ووزير المالية للعسكريين المتقاعدين، ويقوم على إعادة 50 بالمئة من قيمة الرواتب حتى العام 2019، وإضافة زيادة دورية كل ستة أشهر، بمعدّل 10 بالمئة”.

حاز المطلب على إجماع الموظّفين والمتقاعدين، المدنيون منهم والعسكريون. ومع ذلك، ظهر اقتراح ثالث من مجلس الخدمة المدنية، ويقوم على زيادة تدريجية للرواتب على مدى 5 سنوات، بدءاً من العام الجاري وحتى العام 2030، ترتفع خلاله الرواتب إلى ما بين 40 و46 ضعفاً في نهاية فترة الزيادة، في حين أن الرواتب فعلياً خسرت أكثر من 60 ضعفاً.

غير أنّ مقترح المجلس مرفوض بالنسبة للموظفين، ويُعَدّ واحداً من “الحلول الوهمية التي تقوم بها الدولة”، على حدّ توصيف نحّال الذي قال إنّ “الأموال ستقسّط على 5 سنوات، يموت خلالها موظفون قبل أن يقبضوا مستحقاتهم. كما أنّه خلال هذه المهلة، لا نعلم ما الذي سيستجدّ ويؤدّي إلى تمديد المهلة بحجّة عدم وجود المال الكافي، أو حجج أخرى”. علماً أنّ التذرع بعدم وجود الأموال للبدء بتعديل صحيح للرواتب، هو أمر يدفع نحّال للتساؤل عن “أموال الضرائب وإيرادات الدولة من أملاكها البحرية التي لم تُفرَض عليها غرامات صحيحة ولم يجرِ استرداد معظمها، فضلاً عن التساؤل حول عدم استرداد الأموال المهرّبة إلى الخارج منذ العام 2019، بالإضافة إلى سبب عدم فرض ضرائب على الأرباح”.

التطرّق إلى مسألة عدم وجود مالٍ كافٍ لإعادة تصحيح الرواتب والأجور، يحيل ضمنياً إلى عدم رغبة الدولة في ضخّ مبالغ مالية كبيرة في القطاع العام. وإحدى الحجج التي تروَّج، هي حالة التضخّم التي يعيشها القطاع. وفي الواقع، هي حجّة تُرفَع في وجه السلطة السياسية المسؤولة عن هذا التضخّم الذي جرى إثر التوظيف السياسي الذي أدّى إلى توظيف وهمي من جهة، وشغور كبير من جهة أخرى. ومع انهيار سعر صرف الليرة، لم تعد مالية الدولة قادرة على تغطية كلفة هذا التوظيف.

ومع ذلك، فإنّ الدولة هي وحدها التي تملك إضبارات القبض التي من خلالها يمكن معرفة العدد الحقيقي لموظفي الإدارات العامة وحجم رواتبهم. لكن السلطة السياسية، وفق نحّال، “تفضّل ترك الأرقام مبهمة لإيهام الناس بأنّ القطاع العام هو سبب الأزمة في البلد، كما جرى الترويج سابقاً بأنّ سلسلة الرتب والرواتب التي أقرّت في العام 2017 أدّت إلى أزمة. وفي الوقت الذي تقول فيه السلطة أنّها لا تملك المال اليوم، تقوم بإعطاء رواتب خيالية للموظفين الجدد في مرفأ بيروت وفي الهيئات الناظمة، وهي رواتب بآلاف الدولارات، ويصل بعضها إلى 30 ألف دولار، تضاف إليها مئات الدولارات كبدلات حضور لجلسات يفترض أنها جلسات عمل”.

ومع كلّ تسويف ومماطلة، تتعقّد أزمة الرواتب والأجور. وما يزيد الوضع سوءاً، هو إحالة موظفين إلى التقاعد. وهنا، يلفت نحّال النظر إلى أنّ في طيّات ملفّ الرواتب والأجور معضلة كبيرة تتعلّق بالأجراء والمياومين في الإدارات العامة. “وهؤلاء يتركون الخدمة مع تعويض صرف بلا قيمة فعلية، وهنا الكارثة الأساسية. ولذلك نطالب بدمج كلّ الإضافات إلى صلب الراتب ليستفيد منها الموظّف، ونطالب بأن تطال شرعة التقاعد كل المتعاقدين، ليستفيدوا من المعاش التقاعدي”.

مطالب واضحة ومماطلة أكثر وضوحاً، تُظهِر أنّ الدولة تغرّد في مكان آخر لا يُسمع فيه صوت الموظّفين. ولذلك، أخذ هؤلاء قراراً بـِ “عدم العودة إلى الوراء”؛ أي بتشغيل عَدّاد الإضراب من دون تحديد موعد لوقفه..

مصدرالمدن - خضر حسان
المادة السابقةكيف أصبح الخليج ملاذاً للاستثمارات الآسيوية وسط اضطرابات الأسواق الكبرى؟
المقالة القادمةضبط أطنان من الأدوية المزورة… الرقابة تبدأ من المعابر