من على قناة “سبوتنيك” الروسيّة، أراد وزير الطاقة والمياه وليد فيّاض تقديم روايته الخاصّة، لأسباب الأزمة الأخيرة، وبما يُطرب آذان جمهور هذه القناة بالتحديد. كان من المفترض –يقول فيّاض- أن تُعالج الأزمة باستجرار الغاز من مصر، لتشغيل المعامل، غير أن الحصار الأميركي المفروض بموجب قانون قيصر حال دون ذلك. في حديثه الثوري المُقاوم هذا، يمرّ فيّاض على الجانب المتعلّق بالمناكفات السياسيّة المحليّة، غير أن العقوبات الأميركيّة على سوريا، والشروط المتعلّقة بأمن إسرائيل، تظل برأيه العامل الحاسم الذي منع عبور الغاز من مصر إلى لبنان. إنّه الحصار إذًا، كما يخبرنا وليد فيّاض.
لم يكن وليد فيّاض مبدعًا أو سبّاقًا في ربطه ما بين أزمة وزارته والضغط السياسي الغربي. منذ بداية الأزمة، كان هذا الخطاب شائعًا في أوساط سياسيّة عديدة، بنظريّات مبسّطة وصلت إلى حد اعتبار الانهيار الاقتصادي بأسره مؤامرة خارجيّة. بل وبالنسبة لقطاع الكهرباء بالذات، كان هناك من يتحدّث عن إمكانيّة معالجة الأزمة بقرار واحد، إذا ما سمح لبنان للصين أو روسيا أو إيران ببناء المعامل وتشغيلها “مجانًا”. غير أن فيّاض يتحدّث هنا بشكلٍ أكثر دقّة وتفصيلًا، عن مشروع واقعي ومُجدٍ ماليًا، لم يبصر النور. والربط ما بين فشل المشروع والحصار، من على القنوات “المناهضة للإمبرياليّة”، يستلزم بعض البحث والتدقيق.
إشكاليّة التمويل وشروط البنك الدولي
وفقًا للخطّة الوطنيّة للنهوض بقطاع الكهرباء، التي أقرّها مجلس الوزراء في آذار 2022، كان من المرتقب أن تصل التغذية الكهربائيّة إلى 10 ساعات في اليوم، قبل نهاية العام نفسه، قبل أن ترتفع إلى حدود 18 ساعة قبل نهاية العام 2023، ثمّ 20 ساعة قبل نهاية هذا العام. ونحو 30% من التوسعة في قدرة الإنتاج، كان من المفترض أن تأتي –بحلول السنة الراهنة- من مصدرين: معامل دير عمار والزهراني بعد تزويدهما بالغاز المصري، وخطوط الإمداد التي يُفترض تشييدها لاستجرار الكهرباء من الأردن. المصدران، هما جزء من المشروع الكبير نفسه، إذ أنّ توليد الكهرباء في الأردن، كان من المفترض أن يتم باستخدام الغاز المصري أيضًا.
الفكرة من المشروع، كانت أولًا تمكين الشبكة من زيادة الإنتاج تدريجيًا، ومن ثم زيادة الإيرادات بعد تصحيح التعرفة. والخطّة لحظت طبعًا تمويل استجرار الغاز والكهرباء من قرض البنك الدولي، وهو ما سيخلق “رأسمال تشغيلي” يمكن أن تعتمد عليها المؤسّسة على المدى القصير. أمّا الهدف الثاني، فكان خفض كلفة الإنتاج بنسبة الثُلث تقريبًا، بعد الانتقال من تشغيل المعامل بالفيول الثقيل إلى تشغيلها بالغاز الأقل كلفة. ومن دون هذا المشروع، كان من الصعب البدء بزيادة الإنتاج تدريجيًا، وتوسعة القدرة التشغيليّة وفقًا للجدول الذي تضمّنته الخطّة.
غير أن تمويل استجرار الغاز والكهرباء من جانب البنك الدولي كان مربوطًا ببعض الشروط، ومنها ما تحقّق بالفعل مثل تصحيح التعرفة وإقرار خطّة مع جدول زمني واضح تضمن استعادة التوازن المالي في القطاع. غير أنّ لبنان فشل في تحقيق أهم الشروط التي كان يُفترض تنفيذها قبل منح القرض: التدقيق المالي المفصّل في القطاع، للوقوف عن وضعيّته الراهنة، وإنشاء الهيئة الناظمة التي تملك استقلاليّة قانونيّة وإداريّة في إدارة العمليّات التشغيليّة والاستثمار. وعدم الحصول على التمويل، بسبب عدم تنفيذ الشروط، كان يعني فرملة الشروع بأسره، وهذا ما حصل بالضبط.
بطبيعة الحال، لم تكن عرقلة هذه الإصلاحات آتية من عدم. الفريق السياسي المهيمن على وزارة الطاقة (ووزيرها الحالي)، أي التيّار الوطني الحرّ، لطالما تحفّظ على تشكيل الهيئة الناظمة ومنحها الصلاحيّات المُستقلّة عن الوزارة نفسها. رؤية التيّار تقوم أساسًا على تعديل قانون تنظيم قطاع الكهرباء، وإعادة تحديد صلاحيّات الهيئة، لضمان سيطرة الوزارة على القطاع في المستقبل. وهذا ما يتعارض مع هدف تشكيل الهيئة من الأساس، بل ويتعارض مع هدف الشرط الذي وضعه البنك الدولي لمنح القرض للبنان.
أمّا عرقلة التدقيق المالي، فلها أسبابها المفهومة، من جهة إخفاء حجم ونوعيّة التكاليف التي ذهبت إلى كل باب من أبواب الإنفاق، ونسبة هذه التكاليف قياسًا بحجم الإنفاق الإجمالي، ودورها في العجوزات المتكرّرة في الميزانيّة العامّة. وبغياب هذه الأرقام، لم يكن البنك الدولي ليوافق على منح لبنان التمويل، طالما أنّه لن يتيقّن من قدرة مؤسسة كهرباء لبنان على استعادة توازنها المالي في المستقبل.
مسألة الإعفاءات من قانون قيصر
عند طرح الفكرة على بساط البحث، وافقت الإدارة الأميركيّة على منح ضمانات مكتوبة، تؤكّد إعفاء جميع الأطراف المنضوية في المشروع من عقوبات قيصر، بما يسمح عمليًا بتمرير الغاز والكهرباء عبر الأراضي السوريّة. بل وحصلت مصر على رسالة توجيهيّة مكتوبة من وزارة الخزنة الأميركيّة، تشير إلى أن الإدارة الأميركيّة لا تفرض على هذا المشروع القيود التي ينص عليها قانون قيصر.
غير أنّ الجانب المصري، كما تكشف مصادر حكوميّة لبنانيّة، طلب أن يتم إقرار هذه الضمانات في الكونغرس الأميركي، لحماية المصالح المصريّة في المستقبل، مع تبدّل الإدارات في واشنطن لاحقًا. إذ بغياب هذه الضمانات، يمكن أن تتبدّل رؤية الإدارات الأميركيّة مع تغيّر الرئيس في واشنطن، وهو ما يعرّض القاهرة لضغوط قانونيّة لا داعي لها.
وهكذا، كان من المفترض أن يتخطّى لبنان العقبة المتعلّقة بتأمين التمويل من البنك الدولي، قبل السير قدمًا في طرح المشروع أمام الكونغرس في المستقبل. مع الإشارة إلى أنّ طرح فكرة الإعفاءات في الكونغرس، وتأمين الدعم لها من الحزبين، كانت تقتضي حسم مسألة التمويل أولًا، لطرح المشروع كسلّة متكاملة وواضحة أمام مجلسي النواب والشيوخ. وفي جميع الحالات، لم تكن الإدارة الأميركيّة مستعدّة للمضي في عمليّة “لوبينغ” داخل المجلسين، قبل تأكيد قدرة لبنان على المضي بتنفيذ المشروع لاحقًا، عبر تأمين التمويل من البنك الدولي.
بهذا الشكل، كانت العقبة الأولى والأهم المسألة المرتبطة بالإصلاحات والتمويل، لا العقوبات. ولو حسمت مؤسّسة الكهرباء مسألة التمويل باكرًا، لكان من الممكن وضع الإدارة الأميركيّة أمام مسؤوليّتها، بعد جميع التعهّدات والرسائل التي قدّمتها، والتي وعدت بتسهيل تنفيذ المشروع ودعمه. وعندها، كان من الممكن أن يشكو لبنان من تأثير العقوبات، أو ما يسمّيه البعض هنا “الحصار”. أمّا وقد تغاضى لبنان عن تنفيذ المطلوب منه أولًا، وبعد أن فقدت الحكومة مصدر التمويل الأساسي للمشروع، فلا معنى اليوم للحديث عن حصار أو عقوبات أو ضغوط خارجيّة.
ببساطة: هي مسألة مصالح داخليّة، تتعارض مع الحلول المطلوبة في القطاع، تمامًا كما هو الحال في معظم الملفّات الاقتصاديّة الأخرى.