لا يعرف جشع التجار والمستوردين حدوداً، وكلما أتيحت لهم الفرص، ازدادت شهيتهم على الربح، ولو على حساب الناس وصحتهم ولقمة عيشهم. كان يمكن أن يمرّ كل شيء بسلاسة، لو أننا لا نعيش في قلب الانهيار. أما وقد وصل الطمع بهؤلاء لابتزاز الناس وإذلالهم أولاً و«سرقة» المال العام تالياً، فتلك هي الكارثة. وفي عزّ الأزمة المالية الاقتصادية وانكشاف الواقع الاستشفائي، يستميت مستوردو المستلزمات والمعدات الطبية، كما الأدوية، للحفاظ على أرباحهم التي تتخطى في بعض الأحيان الألف بالمئة.
وفي انتظار ذلك، يوزعون المعدات والمستلزمات بـ«القطّارة»، وبالدولار الـ«فريش»، فيما يحتفظون ببقية المستلزمات في المستودعات «بهدف الاحتكار»، على ما يقول وزير الصحة حمد حسن.
أمس، وفي إطار المداهمات التي يقوم بها حسن لمستودعات معدات طبية، وكان قد بدأها أول من أمس، كُشف المستور، إذ تبين أن هناك معدات ومستلزمات طبية «مدعومة» تكفي حاجة السوق بين 3 و6 أشهر، ومعظمها مستلزمات غسيل كُلى ومغروسات طبية وكواشف. حدث ذلك بالتوازي مع إعلان كثير من المستشفيات وقف علاج غسيل الكُلى الأسبوع المقبل بسبب انقطاع تلك المستلزمات. وللمفارقة أيضاً، وفي وقت كانت وزارة الصحة تدهم المستودعات، خرجت نقابة مستوردي المستلزمات والمعدات الطبية معلنة «حل أزمة غسيل الكُلى مع موافقة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة على دعم الملفات»، وهو ما اعتبره الوزير حسن، في اتصال مع «الأخبار»، رسالة «حتى نوقف الحملات كي لا تُكشف المخالفات والفضائح».
وفي استكمالٍ للجولة، داهم حسن مستودعين للمستلزمات والمعدات الطبية لجراحة العظام، وكانت نهاية «الكبسة» مفاجأة مدوّية بعيار 1500%. إذ كشف حسن بعد الاطّلاع على المواد الموجودة داخل تلك المستودعات تلاعباً في قيمة فواتير وأسعار المعدات المدعومة بنسبة تُراوح ما بين 900 و1800%. ولفت إلى أن نسبة التلاعب في الأسعار وصلت في واحدٍ من المستلزمات الطبية إلى 2847%، إذ كانت تبلغ قيمة استيراده 3,8 دولارات، فيما مبيعه في السوق يصل إلى 112 دولاراً. ولم يكن الأمر يختلف كثيراً بالنسبة إلى أسعار مستلزمات أخرى، حيث رصد حسن فارقاً «قاتلاً» ما بين الاستيراد، على أساس سلّة الدعم، والمبيع. فعلى سبيل المثال، يمكن الركون إلى أسعار بعض المغروسات الطبية، حيث تبلغ نسبة الفارق بين المبيع والاستيراد 1009% (استيراد 55 دولاراً وبيع 610 دولارات) أو 1031% (استيراد 45 دولاراً وبيع 509 دولارات) أو 973% (استيراد 49 دولاراً وبيع 526 دولاراً). أما الأنكى من ذلك كله، فهو التواطؤ بين أصحاب المستودعات وبعض أصحاب المستشفيات. وفي هذا السياق، يمكن مثلاً أن يكون للمستلزم الطبي الواحد، ثلاثة أسعار. لماذا؟ لأن «المستورد قرّر أن يضع السعر الذي يطلبه المستشفى»، على ما يقول الوزير. بصريح العبارة «متل ما بدها المستشفى»! ولكم أن تتخيلوا هنا فوارق الفواتير الاستشفائية التي يدفعها المرضى والتي تأتي على أساس رأسمال غير شرعي.
ما يفعله المستوردون ليس ربحاً، وإنما هو، بحسب حسن، «سرقة موصوفة». وهذه العبارة كافية لتوصيف الحال الذي آل إليه القطاع الطبي والصحي. لذلك، عمدت وزارة الصحة، أمس، إلى إخبار القضاء عن مخالفات، وسارع المدعي العام المالي، القاضي علي ابراهيم، إلى أخذ الملف «لاتخاذ الخطوات اللازمة لكي يكون هؤلاء عبرة للآخرين. وفي هذا السياق، يشير حسن إلى أن الملفات المحالة إلى القضاء تضم مستودعين اثنين، ولن يكونا الأخيرين، في انتظار استكمال جولات المداهمة.