بحجة تأمين رواتب الأساتذة والمصاريف، رفعت المدارس الخاصة أقساطها من جديد بعدما كانت قد فرضت العام الماضي مساهمة بالدولار إلى جانب القسط باللبناني، وكأنها تقول أن العلم أصبح فقط لمن هو قادر على تحمل هذه المبالغ. وتدفع الاقساط الجديدة عدداً كبيراً من اولياء الطلاب إلى نقل أبنائهم إلى مدارس أقل كلفة او إلى المدارس الرسمية التي هي متعثرة أصلاً.
وكان تقييم أجرته منظمة «اليونيسف» في لبنان اشار الى أنه «مع استمرار تفاقم الأزمة في لبنان للعام الرابع على التوالي، تعمل الأسر جادة لتوفیر احتیاجات الأساسیة، مجبرة في كثیر من الأحیان على إرسال أطفالا إلى العمل للمساعدة في تغطیة النفقات». وأظهر المسح أن «15 في المئة من الأسر أوقفت تعليم أطفالها، مسجلة بذلك ارتفاعاً من 10 في المئة قبل عام واحد. وخفّضت 52 في المئة من الاسر إنفاقها على التعليم، مقارنة بنسبة 38 في المئة قبل عام».
عيّنة عن الأقساط
باشرت المدارس الخاصة بإصدار جداول الرسوم التعليمية التي وعلى ما يبدو انها مضاعفة بل تصل إلى خمسة أضعاف في بعض الاحيان، حيث أن هناك تفاوتاً كبيراً في الأقساط بين مدرسة وأخرى. ففي المدارس الخاصة الكبيرة والتي تطلب أرقاماً عالية جداً نجد مثلاً:
«سابيس»: 4000 دولار زائد قسم بالليرة اللبنانية،
مدرسة CIS وانترناشيونال كوليدج 7000 دولار للتلميذ،
مدرسة الكوليج بروتستانت 4400 دولار،
لويس فغمان 4000 دولار، اضافة إلى زيادات بالليرة تتراوح بين 25 و80 مليون ليرة للطالب.
أما في مدارس البعثات الفرنسية فيتراوح القسط بين 1700 و2200 دولار، إضافة إلى ما بين 40 و60 مليون ليرة.
وحددت المدارس الكاثوليكية زيادة بنسبة 40 بالمئة على الأقساط، حيث أنها ستتراوح ما بين 1200 دولار و2500 دولار اضافة إلى الأقساط بالليرة.
كما طلبت المدارس الإنجيلية 2000 دولار للعام المقبل.
في اللويزة 1950دولار +75 مليون ل.ل.،
في المقاصد 2000 دولار + 25 مليون ل.ل.،
في سان شارل الاشرفية 400 دولار + 11 مليون ل.ل.،
في «ادفنتيست» 1600 دولار…
وبما أنه لا خيار أمام كثير من الاهل سوى المدرسة الخاصة، في ظل تعثر المدرسة الرسمية، نرى المدارس الخاصة ترفع اقساطها وما من احد يردعها، وهي تتصرف وكأنها فوق أي قانون مخالفة قرار وزير التربية والتعليم الذي منعها من تحصيل أقساطها بالعملة الصعبة، هذا القرار الذي على ما يبدو أنه كان شكلياً فقط.
ماذا يقول القانون؟
أوضحت المستشارة القانونية لاتحاد هيئات لجان الأهل في المدارس الخاصة المحامية مايا جعارة أنه «وفقاً لقانون 515/ 1996، لا يجب أن تتحدد الزيادات في هذا الوقت، لأن موازنة المدارس يفترض بها أن تقدم في نهاية شهر كانون الثاني، ولا يمكن تحديد الأقساط قبل معرفة عدد الطلاب والبدء بعملية التسجيل. فالقسط يُحدَّد بعد التسجيل المدرسي بما أنه يتألّف من مجموع المصاريف مقسّمة على عدد التلاميذ، إلا ان المدارس وضعت الأقساط دون ان تعلم عدد المسجلين لديها بهدف ترقب مصير الأقساط للسنة المقبلة، كي يتخذ الأهالي القرار المناسب وكذلك لناحية الأساتذة».
سياسة متبعة
وتشير جعارة إلى أن «زيادة الأقساط أصبحت اليوم سياسة متبعة من قبل المدارس الخاصة بعدما تراجعت المساعدات المقدمة لهم وتخوفهم من العام المقبل، حيث قررت زيادة الأقساط بشكل ملحوظ بهدف تأمين رواتب الأساتذة والمصاريف المدرسية». كما لفتت الى أنه «من الضروري أن تتدخل الجهات المسؤولة في الدولة لوضع ضوابط صارمة على هذه الزيادات، لأن هذه السياسة المعتمدة من قبل إدارات المدارس تتخطى قدرات عدد كبير من أهالي التلاميذ. وأضف إلى ذلك حالات اليأس والاستسلام التي وصل اليها الأهل بعدما رفعوا الصوت في الأعوام الماضية ولم يتلقوا أي جواب وبالتالي نراهم اليوم راضخين للأمر. فعلى أرض الواقع، لا يقوم مجلس النواب مثلا بواجباته، بل نسمع بعض التصريحات الشعبوية من قبل بعض النواب واصفين فيها حالة التعاطف مع الأهل، ولكن من دون أن نصل إلى أي خطوة ملموسة. وعن وزارة التربية، فهي تحاول لملمة الأمورعندما يعلو الصوت ولكن بلا جدوى، ومن المفترض أن تفرض وهرتها على المدارس. بالمختصر، لا نيّة لدى المسؤولين لمعالجة مشكلة المدارس الخاصة في لبنان».
ماذا عن الجهات المانحة؟
أوضحت جعارة أنه «أصبح اليوم من الضروري مشاركة الأهل في دفع الأقساط التي باتت مرتفعة جداً، إذ يرمي على كاهلهم وحدهم عبء القسط المدرسي، خاصةً ولأن 70 بالمئة من طلاب لبنان يرتادون المدارس الخاصة فيما 80 بالمئة من المواطنين يرزحون تحت خط الفقر. وبما أن الدولة اللبنانية غير قادرة على مساندتهم، من المفترض أن يكون هناك دعم من قبل جهات مانحة. ولكن للحصول على هذا الدعم، يجب على المدارس أن تقوم بتقديم داتا شفافة وأرقام واضحة عن حساباتها تبيّن الحاجة وأسبابها ونسبتها. وعلى إدارات المدارس ونقابة المعلمين واتحادات لجان الأهل التضامن بين بعضها البعض لإقناع هذه الجهات بضرورة المساعدة والتعامل بشفافية معها، كون هذه الجهات المانحة غير مقتنعة بحاجة المدارس الخاصة للمساعدة».
التعليم الرسمي خط أحمر
إن مصير عشرات آلاف الطلاب على المحك، وهناك كارثة مرتقبة في العام المقبل، وقد نشهد موجة تسرب دراسي ضخمة، مع انعدام قدرة عدد كبير من الطلاب على الالتحاق بالمدارس الخاصة من جهة والضبابية التي تسود العام الدراسي المقبل في المدارس الرسمية من جهة أخرى. وبحسب مديرة ثانوية مارون عبود في عاليه د. سناء شهيّب: «إن أبرز التحديات التي واجهتها الثانوية في العام الماضي هي تراجع القدرة الشرائية للأساتذة وعدم قدرة وصول البعض منهم إلى المدرسة. ولتعويض هذه الخسارة، وبجهود من عدد من الأساتذة والإداريين استطعنا إنهاء المنهج الدراسي بحوالى 90 يوماً إضافة إلى الالتحاق بدورة للصفوف النهائية، وكانت نتائج الامتحانات الرسمية ممتازة حيث كانت نسبة النجاح 97 بالمئة. أما التحدي الثاني فكان صندوق المدرسة المتضمن رسوم تسجيل والذي لم يصمد حتى شهر آذار، ولكن بمساعدة من الخيّرين تمكنا من الصمود». وتشير شهيب إلى «تراجع 5 بالمئة من عدد الطلاب فقط على الرغم من التراجع الملحوظ في عدد كبير من المدارس الرسمية الأخرى، والسبب هو وجود ثقة في المدرسة». وتضيف شهيّب: «لا يمكن ترقب ما سيكون حال العام المقبل في الرسمي، ولكن في حال لم يتلق الأساتذة حقوقهم، لن يتمكنوا من الوصول الى المدرسة».
ضحية السلطة منذ سنوات
ويقول النقابي محمد قاسم إن»التعليم الرسمي في لبنان هو ضحية السلطة منذ سنوات حتى اليوم، يدفع ثمن المواقف الرسمية التي تُتخذ لجهة الإهمال المتمادي والمتعمّد للتعليم الرسمي والجامعة اللبنانية أيضاً، بحيث تُحاصر هذه المؤسسات ويُمنع تطورها وتنامي أعدادها وأعداد طلابها ولجم تطوّر نجاحاتها، هي التي أثبتت قدرتها على المنافسة الجديّة مع المدارس الخاصة، لذلك لم توضع المدارس الرسمية والجامعة اللبنانية في سلّم الأولويات لدى الدولة اللبنانية. ونموذج على ذلك لقد أثبت التعليم الثانوي ليس فقط حضوره ولكن تفوقه، وأصبح منتشراً على كافة الأراضي اللبنانية في أقل من 20 سنة، حيث تمكن من أن يضاعف أعداد الثانويات من حوالى 8 إلى 10 أضعاف وكذلك بالنسبة لعدد الطلاب. فقبل أزمة كورونا والأزمة الاقتصادية وصل عدد الطلاب في الثانويات الرسمية إلى 80 الفاً، وعدد الثانويات إلى 286 ثانوية بعدما كان عددها لا يتعدى 90 ثانوية في التسعينات. ولكن لم تول الدولة الأهمية المطلوبة بالنسبة للتعليم الرسمي للصفوف الابتدائية والمتوسطة حيث أنه يوازي ثلث عدد طلاب لبنان، فلذلك تبقى المدرسة الخاصة متفوقة على الرسمية في هذه المراحل. إذاً نحن اليوم أمام معضلة متشابكة ومتعددة في آن. فالمدرسة الرسمية تفتقر اليوم لوجود المستلزمات الضرورية لتطبيق المناهج التعليمية. وبالعودة إلى خطة النهوض التربوي والتي تتضمن 9 بنود، لا يتوفر لدى هذه المدارس سوى بند واحد وهو الكتاب المدرسي، بالمقابل هناك موضوع الأساتذة والتجهيزات والمختبرات والملاعب والمكاتب…».
نزوح الطلاب
ويشير قاسم إلى «نزوح عدد من طلاب المدارس الرسمية بعد الإضرابات والتوقف عن التعليم نحو بعض المدارس الخاصة، فمن جهة ليس كل المدارس الخاصة تقبل قدوم طلاب من المدارس الرسمية نظراً لقدرة استيعابها، ومن جهة أخرى تمنع أقساطها المرتفعة من التحاق عدد لا يستهان به من الطلاب الذين بمعظمهم هم دون الطبقة الوسطى. وهناك جزء آخر من الطلاب الذين يتجهون نحو المدارس المجانية التي يجب إقفال بعضها ما عدا التابعة لمؤسسات وجمعيات محترمة والتي لا تبغي الربح. كما وهناك عدد من الطلاب الذين يتركون المدرسة ليلتحقوا بسوق العمل، فمن جهة هم غير قادرين على تحمل أعباء المدرسة الخاصة ومن جهة أخرى هم في حالة يأس من الإضرابات في المدرسة الرسمية».
معاناة المدرسة الرسمية
بعدما خسر التعليم الرسمي عدداً كبيراً من طلابه، يوضح النقابي محمد قاسم أنه «لم يكن الإضراب السبب الوحيد الذي أدى إلى نزوح الطلاب، فالسبب الأساسي هو عدم توفّر عناصر لإنجاح المدرسة الرسمية، فعلى سبيل المثال هناك عدة مواد لا تقوم المدرسة الرسمية بتدريسها، مع العلم اننا أصبحنا اليوم في مرحلة التحدي التكنولوجي، على رغم وجود مبادرات من قبل أفراد الهيئة التعليمية. لذلك فإن توقف عمل المدرسة الرسمية غير مرتبط فقط بالإضرابات، إنما أيضاً بالإهمال المتعمّد من قبل الدولة. أضف إلى ذلك انعكاس تعليم السوريين في المدارس الرسمية، ما شكل عبئاً كبيراً عليها، حيث تُرك التعليم الرسمي بمفرده أمام هذه المهمة دون ظهور أي استعداد من قبل المدارس الخاصة للقيام بهذه المهمة أو حتى مبادرة لاستخدام أبنيتها، الأمر الذي شتت ذهن ونشاط أفراد الهيئة التعليمية. وآخر معزوفة كانت محاولة دمج الطلاب السوريين بالطلاب اللبنانيين الأمر الذي سيؤدي إلى تراجع المستوى التعليمي وخاصة في اللغات الأجنبية». وعند سؤاله عن خطر إقفال المدارس الرسمية، كان جوابه التالي: «لا خوف على إقفال المدارس الرسمية، ولكن هناك خوفاً على المدارس التي افتتحت لأسباب سياسية، كفتح ثانوية لـ7 طلاب فقط أو أن عدد أساتذتها يفوق عدد طلابها. من هنا يمكن دمج عدد من المدارس الرسمية التي خسرت عدداً كبيراً من طلابها عن طريق سياسة واحدة وهي الخريطة المدرسية وذلك بهدف توفير الأموال التشغيلية وخلق اندماج وطني. ويختم قاسم بالقول: «نحن نطالب بأن تكون هناك فرصة للتعليم الرسمي للتنافس الجدي مع المدارس الخاصة، بمعنى أن يتم توفير المستلزمات وشروط التطوير الأساسية، ويصبح بعد ذلك البقاء للأفضل وليس للأقوى. ولكن إذا بقيت الأولوية في لبنان للمدارس الطائفية والمذهبية على حساب المدرسة الرسمية، سيبقى لبنان غارقاً بالأزمات وسيواجه صراعات وخلافات عديدة، لأنه ليس هناك من مؤسسة أهم من التعليم الرسمي».