أكوام من الأوراق.. عندما تنهار العملات!

من تركيا، إلى مصر وسوريا والسودان وفنزويلا ولبنان، عشرات ملايين الأفراد وجدوا أنفسهم مفلّسين مع أنهم يمتلكون أكواماً من الأوراق النقدية. ما يثبت قاعدة اقتصادية بسيطة أنّ الأوراق النقدية ليست قيمة، في حد ذاتها، بل هي تختزن القيمة الفعلية للاقتصاد. وعندما تبدأ رحلة الانهيار، ستتبدد هذه الأصول المبنية على الثقة.

النقود، في حدّ ذاتها، لا تختزن أي قيمة. هي مجرد أوراق، لكنها في الحقيقة تعكس الواقع الاقتصادي للبلد. وتساهم عدة عوامل في قوّة العملة وضعفها، لكن القاعدة الأساسية في سعر صرف أي عملة هي القاعدة الأساسية في سعر أي سلعة: قانون العرض والطلب. ما يقوّي قيمة العملة، هو الميزان التجاري الرابح، المعتمد على حجم صادرات مرتفع. وما يُضعفها، هو الاعتماد على الاستيراد.

فنزويلا: أسوأ تضخم بنسبة 950 في المئة

عندما يرتفع الطلب على عملة تزداد قيمتها، وعندما ينخفض هذا الطلب تتراجع. يؤدي حجم الكتلة النقدية المطروحة دوراً في تحديد قيمتها. في فنزويلا، على سبيل المثال، وهي أحدث تجربة في هذا الإطار، أدّى الطبع المتزايد للبوليفار، إلى اضمحلال قيمة العملة، بعد أن خسرت 95.7 في المئة من قيمتها. وبات سعر رغيف الخبز 7 ملايين بوليفار، الأمر الذي تسبب بأسوأ تضخم بنسبة 950 في المئة. بيد أنّ طبع العملة لم يكن العامل الوحيد في فنزويلا. فانهيار أسعار النفط عالمياً، بالإضافة إلى القلاقل التي غذّتها الولايات المتحدة، واحتجازها الأصول والأموال وأموال النفط والعقوبات ومنع التصدير، كانت عوامل حاسمة في تراجع كتلة الاقتصاد الحقيقي للبلاد بنسبة 35 في المئة، الأمر الذي فاقم المشكلة، وأدّى إلى فقدان كامل لقيمة العملة، بحيث بات الفنزويلي يحتاج إلى 15 مليون بوليفار من أجل شراء دجاجة واحدة، بعد أن كانت تكلّف سبعمائة بوليفار، هذا فضلاً عن أنّ الحد الأدنى للأجور في البلاد بات لا يكفي لشراء كيلوغرام واحد من اللحم.

الليرة اللبنانية خسرت 95 بالمئة من قيمتها

في لبنان، بعد أكثر من عقدين على ثبات سعر الصرف عند 1500 ليرة لبنانية للدولار الواحد، شهد عام 2019 بدء تراجع قيمة الليرة، والأزمات السياسية المتلاحقة، والتراجع الكبير في الاحتياطيات المالية الأجنبية. بالإضافة إلى قيام المصرف المركزي بطبع كميات كبيرة من النقد لتلبية المدفوعات، فضلاً عن التخلف عن سداد الديون الحكومية. وهذه عوامل فاقمت أزمة العملة التي تراجعت، خلال عامين فقط، بنسبة تزيد على 95 في المئة، ليصل الانهيار إلى 33 ألف ليرة للدولار. وتمّ احتجاز الودائع الدولارية، وتقنين سحب العملة المحلية من جانب المصارف، الأمر الذي دفع البنك المركزي إلى التدخل وضخّ الدولار عند سعر أقل من سعر السوق للعامة، وذلك لأول مرة منذ بدء الأزمة، وهي الخطوة التي كان يكتفي خلالها بمحاولة تهدئة السوق عن طريق إجراءات متعددة، ووضع سعر صرف متعدد، بيد أنّ الخطوة الحالية تُعَدّ مكلفة للغاية، وخصوصاً مع إعلان المركزي أنه لا يمتلك أكثر من 12 مليار دولار كاحتياطيات إلزامية للمصارف. في وقت تقدَّر تكلفة هذه الخطوة بما بين 200 مليون ومليار دولار، علماً بأنّ الأسباب الحقيقية للتراجع الاقتصادي المتسارع لم يتم وضع خطة لحلها، الأمر الذي يجعل عودة سعر الصرف إلى 20 ألف ليرة للدولار حالةً هشّة وغير قابلة للاستمرار من دون خطة اقتصادية موازية.

هذه الأزمة المالية في لبنان، تسبّبت بتراجع القيمة الحقيقية للحد الأدنى للأجور من 500 دولار إلى 30 دولاراً، ووصل التضخم إلى 860 في المئة منذ أواخر عام 2019، ونسبة الذين يعانون الفقر ارتفعت 83 في المئة، وفق بيانات “الإسكوا” بعد أن كان في حدود الـ23 في المئة.

تراجع الليرة التركية والسورية..

التجارب تُظهر أن الحلول المالية والنقدية، أي التلاعب بتوزيع الكتلة النقدية في البلاد، لا تنفع عندما يكون أساس الانهيار هو الوضع الاقتصادي. ففي تركيا، على سبيل المثال، تراجعت قيمة الليرة خلال 3 أعوام مما يتراوح بين 5 و7 ليرات للدولار، إلى 18 ليرة للدولار، لكنّ تعديلاً في سياسات البنك المركزي أعاد سعر الليرة إلى 14 ليرة للدولار، في وقت أنّ السياسات المالية والتلاعب بمعدلات الفائدة، غير كافية وحدها لإعادة قيمة العملات في بلدان، كسوريا ولبنان وفنزويلا. فسوريا، الخارجة من حرب مدمرة، تحتاج إلى إعادة تفعيل اقتصادها الحقيقي، وإعادة الصادرات إلى سابق عهدها، وتقليص فاتورة الاستيراد، وخصوصاً للمنتجات الزراعية والوقود.

أمّا لبنان، فتلعب البنية التي رُسّخت منذ عام 1992، والمبنية على إقصاء الصناعة والزراعة، والاعتماد على العوائد السياحية، وتجارة إعادة التصدير وتحويلات المهاجرين، بالإضافة إلى الاعتماد على الاستدانة، داخلياً وخارجياً، بفوائد مرتفعة، ليبلغ حجم الديون عام 2019 نسبة 185 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وبالتالي، فإنّ انهيار سعر الصرف في لبنان يرجع إلى الطبيعة البنيوية للاقتصاد، والتي تمّ إرساؤها بعد الحرب الأهلية. والحلول يجب أن تكون بنيوية في المقابل.

مصدرالميادين - أيمن فاضل
المادة السابقةبيفاني: تحسن سعر النقد غير مبني على أي معطى واقعي والموازنة فيها هيركات هائل على الناس
المقالة القادمةالصناعات اللبنانية تتجه إلى سوق الولايات المتحدة!