ألغاز وألاعيب محاسبية في موازنة 2019: العجز يتراجع والدين العام لا يزيد!

 

التركيز على الإيرادات “النوعيّة” أكثر جدوى من التقشّف. هذا ثابت في مشروع موازنة 2019. فرغم ألاعيب وزارة المال في تقدير الإيرادات بين موازنتي 2018 و2019، وإصرارها على “السخاء” في منح المتهربين من الضريبة إعفاءات بالجملة والمفرق، بات واضحاً أن البند الوحيد الذي أحدث فرقاً في العجز هو رفع ضريبة الفوائد من 7% إلى 10% بما يحقق 900 مليار ليرة إضافية. ومن الثابت أيضاً أن التقشّف أصاب اعتمادات وزارة الدفاع بمبلغ 252 مليار ليرة من أصل 500 مليار اقتطعت من 17 إدارة عامة، في مقابل زيادة اعتمادات وزارة الشؤون الاجتماعية بمبلغ 112 مليار ليرة، وإبقاء خدمة الدين بارتفاع طفيف عن مستواها السابق من دون تفسير هذا الأمر “العجيب”!

يتحكّم عقل المحاسب في كل مفاصل الدولة وعلى رأسها وزارة المال. فقد أحيل مشروع موازنة 2019 إلى مجلس الوزراء بعد تشاور “عميق” بين القوى السياسية، ليخرج مسخاً ليس فيه أي رؤية اقتصادية لما سيكون عليه لبنان خلال السنوات المقبلة، ولا يشكّل مدخلاً للتصحيح المالي بمقدار ما يمكن وصفه بأنه عملية تجميل للأرقام فيها الكثير من الألغاز والتناقضات المثيرة للجدل، وأبرزها زيادة في خدمة الدين العام بقيمة 98 مليار ليرة في 2019 بدلاً من 1360 مليار ليرة! فضلاً عن تبخّر مبلغ 1040 ملياراً من الإيرادات التي كانت مقدرة في موازنة 2018 والتعويض عنه في موازنة 2019 بزيادة الضرائب على الدخل وعلى الفوائد… لكن المفارقة أن حاصلات ضريبة الدخل تنخفض رغم زيادتها، فيما يبقى هناك بند وحيد ذو جدوى، هو زيادة ضريبة الفوائد التي تغطّي كل هذه الفروقات والتناقضات في الإيرادات، بسبب ازديادها بقيمة 904 مليارات ليرة.

مفارقة العجز والناتج

إحدى المفارقات الاساسية الواردة في مشروع موازنة 2019 أن تقرير وزير المال علي حسن خليل يذكر أن نسبة العجز إلى الناتج المحلي الإجمالي ستنخفض لتبلغ 5.95%، أي إن هذه النسبة تلبّي سعي لبنان لتحرير أموال “سيدر” التي لا تزال محجوزة في انتظار تأكّد الجهات المانحة من أن لبنان ينفذ التزاماته تجاهها بخفض العجز ووضعه على مسار انحداري من خلال الإصلاحات والتقشف. لكن السؤال هو كيف توصّل وزير المال إلى خفض العجز إلى هذا المستوى المتدني؟

في تقريره، يشير وزير المال إلى أن الإيرادات مقدرة بنحو 18265 مليار ليرة في مقابل نفقات بقيمة 23617 مليار ليرة، أي إن العجز مقدّر بـ 5352 مليار ليرة (3.55 مليارات دولار)، لكنه لا يضيف إلى هذا العجز المبلغ الذي ستدفعه الخزينة لمؤسسة كهرباء لبنان لتغطية شراء الوقود اللازم لتشغيل معامل الكهرباء والمقدر بنحو 1706 مليارات ليرة (1.13 مليار دولار)، أي إن العجز الفعلي في الخزينة سيبلغ 7058 مليار ليرة (4.68 مليارات دولار)، ما يعني أن نسبة العجز من الناتج ستبلغ 7.8% على افتراض أن قيمة الناتج المقدر بنحو 59.7 مليار دولار هي صحيحة وليست منفوخة! فصندوق النقد الدولي توقع في حزيران 2018 أن يبلغ الناتج في لبنان في 2019 نحو 56 مليار دولار على افتراض أن النمو أعلى من 2%، وبهذه الحال تكون نسبة العجز إلى الناتج 8.3%. لكن هذه النسبة تتطلب أن تكون أرقام الإيرادات والنفقات صحيحة.

إيرادات غير كافية

على ضفّة الإيرادات، يظهر الكثير من التناقضات والألغاز. فعلى سبيل المثال، كان هناك مبلغ مقدر تحصيله في عام 2018 بقيمة 1040 مليار ليرة، تحت عنوان “ضرائب أخرى على الدخل”، لكن مشروع موازنة 2019 يشير إلى أن التحصيل لم يزد على 909 ملايين ليرة حتى نهاية تشرين الثاني 2018، ويقدر أن يحصَّل 897 مليوناً في 2019! لا أحد يعلم ما هو لغز «الضرائب الأخرى على الدخل» وما هي طبيعتها، ولماذا كانت تقديراتها مبالغاً فيها إلى هذه الدرجة.

وليس هذا البند هو الوحيد الذي يسجّل تراجعاً بين التقديرات في 2018 وبين تقديرات 2019، فهذا الأمر ينسحب على ضريبة الأملاك المبنية التي ستتراجع من 1284 مليار ليرة إلى 1138 مليار ليرة، ورسوم الانتقال ستتراجع من 176.8 مليار ليرة إلى 111.6 مليار ليرة… ولماذا لا يذكر المشروع أي إيرادات محصلة من الأملاك البحرية، ولماذا ليس هناك تقديرات لها في 2019؟ حتى تقديرات ضريبة القيمة المضافة ستبقى مستقرّة عند مستوى 4 آلاف مليار ليرة، علماً بأن الحاصلات الفعلية في 2018 (حتى تشرين الثاني) لا تزال أقل بقيمة 300 مليار ليرة من تقديرات مشروع موازنة 2018.

كذلك يتبينّ أن الضريبة على الأرباح ستتراجع من 1493 مليار ليرة مقدرة في موازنة 2018 إلى 1479 مليار ليرة في 2019، علماً بأن حاصلات هذه الضريبة حتى تشرين الثاني 2018 بلغت 1342 مليار ليرة، أي أقل من التوقعات.

وفي المقابل ستزيد حصّة ضريبة الدخل على الرواتب والأجور من 780 مليار ليرة في 2018 الى 936 ملياراً في 2019، وذلك بسبب زيادة الضريبة على شطور الدخل الأعلى.

بشكل عام تسجّل موازنة 2019 تراجعاً في الإيرادات غير الضريبية بقيمة 410 مليارات ليرة، علماً بأن هذا النوع من الإيرادات يأتي من كازينو لبنان ومرفأ بيروت والمتاحف ووزارة الاتصالات والاستراحات… وفي غالبيتها مؤسسات طالها بعض الإجراءات التي يقترحها خليل في الموازنة، سواء ما يتعلق بتصديق حساباتها أم خفض أجور العاملين فيها… لكن لم يظهر أي أثر لهذه الإجراءات في الإيرادات المتوقعة من هذه المؤسسات.

البند الأكثر جدوى في الإيرادات، هو ذلك المتعلق بزيادة ضريبة الفوائد من 7% إلى 10%، ولو أن هذه الزيادة كانت عشوائية ومن دون دراسة، لأنها لا تميّز بين صغار المودعين وكبار المودعين. فبحسب المشروع، يتبين أن إيرادات هذه الضريبة كانت مقدرة في عام 2018 بنحو 1301 مليار ليرة، لكن حاصلاتها بلغت 1612 مليار ليرة في تشرين الثاني 2018، وزيادتها إلى 10% سترفع قيمة الإيرادات المقدرة منها إلى 2516 مليار ليرة في 2019.

الأسوأ هو خفض الغرامات من كل حدب وصوب في مشروع يدّعي أنه يسعى لزيادة الإيرادات.

النفقات: إصابات وحوافز

على ضفّة النفقات، لم يتطرق مشروع الموازنة إلى أي مقارنة بين 2019 و2018، ما ترك الباب مفتوحاً على الكثير من الأسئلة من نوع: ما هي الإدارات العامة التي أصابها الخفض؟ ومن هي الجهات التي أعفيت منه؟ لماذا هناك إصابات وحوافز مباشرة للإدارات العامة تحت سقف واحد؟

في الواقع، أجرت “الأخبار” المقارنة بين موازنتي 2018 و2019 واستخلصت الآتي:

– طال الخفض 17 إدارة عامة اقتطع منها نحو 500 مليار ليرة. 50% من هذا الاقتطاع جاء على حساب اعتمادات وزارة الدفاع التي تراجعت بقيمة 252.4 مليار ليرة، وتليها اعتمادات وزارة الأشغال بقيمة 73 مليار ليرة.

– 7 إدارات عامة ارتفعت قيمة اعتماداتها بقيمة 438 مليار ليرة، لكن أبرزها وزارة الشؤون الاجتماعية التي استحوذت على زيادة بقيمة 111.8 مليار ليرة، ووزارة الطاقة والمياه التي استحوذت على زيادة بقيمة 72.9 مليار ليرة.

– إدارة عامة واحدة لم تشهد تغيراً ملموساً في اعتماداتها هي وزارة العدل.

التقشّف اقتطع من وزارة الدفاع 252 مليار ليرة من أصل 500 مليار من الإدارات

– زادت النفقات المشتركة بقيمة 98 مليار ليرة لتبلغ 11120 مليار ليرة، علماً بأن وزير المال يشير في تقريره إلى أن هذا البند يتضمن الاعتمادات المخصصة لمعاشات التقاعد وتعويضات نهاية الخدمة، وقد جرى الإبقاء عليها كما وردت في 2018، أي بقيمة 2808 مليارات ليرة، من دون احتساب الزيادة الطارئة عليها بقيمة 721.3 مليار ليرة.

– أجري خفض على احتياط الموازنة لعام 2019 ليصبح 623.1 مليار ليرة بدلاً من 844.7 مليار ليرة في 2018، أي بخفض قيمته 221.5 مليار ليرة.

الدين العام مستدام!

أما على ضفّة خدمة الدين العام، فقد كان يفترض أن تزداد كلفته من 8214 مليار ليرة (5.44 مليارات دولار) في 2018 إلى 9700 مليار ليرة (6.5 مليارات دولار) في 2019، أي بزيادة قيمتها 1486 مليار ليرة، لكن لأسباب مجهولة قرّر وزير المال أن يبقيه على 8312 مليار ليرة، أي أعلى بقيمة 98 مليار ليرة فقط مما كان عليه في 2018!

هذه هي رؤية وزارة المال والقوى السياسية للموازنة العامة. ليس فيها سوى “تركيب طرابيش” اعتادت كل وزارات المال المتعاقبة القيام به من أجل ضخّ بعض من الأوكسيجين في شرايين النموذج الاقتصادي اللبناني. هذا النوع من التلاعب بالأرقام ليس مؤشراً على أن هناك جدية في التعامل مع الموازنة، ولا يعكس رؤية واضحة لمستقبل لبنان الاقتصادي، بل هو “يأتي في السياق نفسه الذي بدأه وزير المال السابق فؤاد السنيورة”، على حدّ تعليق الوزير السابق شربل نحاس.

 

 

 

 

 

بواسطةمحمد وهبي
مصدرجريدة الاخبار
المادة السابقة“نبراس” القطرية تستحوذ على حصة الأسد في إحدى أكبر محطات تونس الكهربائية
المقالة القادمةوزارة النفط السورية تطلق شرائح سعرية للبنزين.. والوزير يوضح