في مطلع أيّار عام 2020، أعلنت جمعيّة المصارف عن خطّتها المقترحة للتعافي المالي، ردًا على الخطّة التي كانت تعمل عليها حكومة الرئيس حسّان دياب بالتعاون مع شركة “لازارد”. يومها، وفي خطّة المصارف، ولدت فكرة “الصندوق”، الذي سيتكرّر ذكره في خطط ومشاريع قوانين عديدة أخرى، وبمسمّيات وصيغ متنوّعة. فكرة “الصندوق”، مهما تنوّعت أشكاله، تقوم على مبدأ واحد: أن تلتزم الدولة بتقديم أصولها ومرافقها العامّة لكيان ما، بهدف تخصيص رسوم هذه المرافق وعائداتها –أي أموالنا نحن دافعي الضرائب- لتعويم القطاع المصرفي وإطفاء خسائره، بدل الدخول في عمليّة إعادة هيكلة القطاع. إلقاء الخسارة المصرفيّة على كاهل الأموال العامّة، هي النتيجة الأخيرة هنا.
فعلها اللوبي المصرفي وأسقط خطّة لازارد قبل انقضاء العام 2020، وتفرمل مسار التفاهم مع صندوق النقد. ثم فعلها هذا اللوبي مجددًا، وحال دون تنفيذ التفاهم الموقّع مع صندوق النقد على مستوى الموظفين منذ العام 2022. وطارت جميع الحلول العقلانيّة منذ ذلك الوقت، ولم يتبق في الساحة إلّا مشروع جمعيّة المصارف. تبنّت هذه الفكرة مؤخرًا حركة أمل والقوّات اللبنانيّة والتيّار الوطني الحر والهيئات الاقتصاديّة، بمسميات وصيغ مختلفة. وإذا كانت النتيجة الماليّة نفسها، فالاختلاف الأساسي هو طريقة إدارة الصندوق، أو بالأحرى: الجهة التي ستقبض على مفاتيح عمليّة تحاصص المال والأصول العامّة خلال العقود المقبلة.
جمعيّة المصارف: الرصاصة الأولى
ستذكر الأجيال المقبلة، التي ستتحسّر على كل ما يجري اليوم، أنّ المشروع الذي تتبناه القوى السياسيّة حاليًا ولد في رحم جمعيّة المصارف، ولم يبصر النور إلا ردًّا على أي طرح يمكن أن يمس بمصالحها أو برساميل أصحابها. كان طرح “الصندوق” منذ البداية بديلًا عن مسار آخر، يبدأ بتحديد أسباب الخسائر المصرفيّة المتراكمة، وينتهي بتحميل الخسائر لمن استفاد من ارتكابات المرحلة السابقة. “الصندوق” هو الأداة المثاليّة لتحويل الودائع، وخسارة المصارف، إلى إلتزام على الدولة وأصولها وأموالها، بمعزل عن واقعيّة الطرح أو قدرته على رد الودائع فعلًا.
على هذا النحو طرحت الجمعيّة في خطّتها ما يلي: سيكون إسمه “صندوق سداد الديون”، وسيتحوذ الصندوق على ما قيمته 40 مليار دولار أميركي من الأصول والمرافق العامّة، على أن يصدر سندات طويلة الأجل تستحق لمصلحة مصرف لبنان بالدولار الأميركي.
دين الحكومة للمصرف هو بالليرة، وقد خسر أكثر من 98.5% من قيمته اليوم، لكن الصندوق سيسدد “الدين” بالدولار للمصرف. هنا تكمن الخديعة الأولى، التي تبدو كنوع من “التشبيح” على حساب المال العام. لكنّ بسيطة، طالما أن المطلوب هو تمكين مصرف لبنان من إعادة رسملة المصارف، وإطفاء الخسائر التي تراكمت في عمليّاتها المتبادلة مع المصرف المركزي.
بعد أشهر قليلة، سيتبيّن في الدراسات أنّ قيمة أصول الدولة ومرافقها مجتمعة ستتراوح –في أفضل الأحوال- بين 12 و17 مليار دولار، ما يطرح السؤال عن واقعيّة الطرح وقدرته على تسديد الودائع في المستقبل. السؤال يصبح أكثر إلحاحًا إذا ما تذكرنا أن المطلوب ليس بيع الأصول، لكون بيعها سيكشف ضآلة المبلغ، بل استثمارها وردم الفجوة من عائدات الاستثمار. على الورقة والقلم، قد لا تكفي خمسة عقود من الزمن لتسديد المبلغ الذي تطلبه جمعيّة المصارف، هذا إذا ما افترضنا أن الاستثمار سيحقق عوائد مبهرة تتجاوز 7% سنويًا. مجددًا: بسيطة، طالما أن المطلوب هنا ليس الرهان على تسديد الودائع فعلًا، بل الهروب من استحقاق الاعتراف بالخسائر والتعامل معها.
نجاح في تسويق الطرح
يومها، لم تطرح جمعيّة المصارف أطر الحوكمة الخاصّة بهذا الصندوق: كيف سيتصرّف مصرف لبنان بالعائدات ويوزعها على المصارف؟ ومن سيدير الصندوق، طالما أنّنا ننتظر منه أن يحقق بالفعل عائدات خياليّة لتسديد هذا المبلغ الضخم؟ وكيف ستنجح الدولة في تشغيل المرافق على نحو مربح، في ظل اقتصاد مهشّم وقطاع مالي ممتلئ بالخسائر التي لم تتم معالجتها؟ لم يكن ذلك مهمًا في تلك المرحلة، الأولويّة كانت رمي الفكرة: فكرة مسؤوليّة الدولة عن الخسائر، بمالها وأصولها، بدل السير بأي مشروع آخر.
في المقابل، كانت جمعيّة المصارف تدرك أن فكرتها شديدة الإغراء للسياسيين اللبنانيين، الباحثين عن فرص تحاصص الصفقات والتلزيمات لحساب القطاع الخاص، التي سيفتحها الصندوق، بدل الدخول في مسارات “نبش الملفّات” والتدقيق والبحث عن أسباب الخسائر وتوزيعها.
لم تكن الفكرة شعبيّة في البداية. هي وليدة جمعيّة المصارف، ولمصلحة المصرفيين أنفسهم. وكان دور اللوبي المصرفي واضحًا، في الإطاحة بخطّة لازارد، في تلك المرحلة بالتحديد. وجميع المؤسسات الدوليّة، ومراكز الأبحاث، كانت تعيد التشديد على ضرورة إعادة هيكلة القطاع المصرفي، بدل الرهان على إثقال الدولة بهذا النوع من الديون لعقود من الزمن.
لكن بمرور الوقت، تمكّن اللوبي من تسويق طرحه جيدًا، إعلاميًا وسياسيًا، فبات مبدأ تحميل الدولة الخسائر هو الرائج. ثم تعثّر التفاهم مع صندوق النقد الدولي على مراحل، فسقطت آخر الموانع التي حالت دون السير بهذه الفكرة. هنا، انتقلت القوى السياسيّة للتسابق على طرح الأفكار، المتعلّقة بهويّة الجهة التي ستدير الصندوق وتتحكّم به، بدل البحث في جدوى الفكرة نفسها.
حركة أمل: هيئة شكليّة بدل الصندوق
حركة امل تبنّت المقاربة العامّة للمشروع، عبر تلقّف المسودّة التي اقترحها رئيس مجلس شورى الدولة فادي الياس، ومن ثم اقتراحها كمشروع قانون. بعكس طرح جمعيّة المصارف، لم ترغب الحركة بتقييد عمليّة استثمار الأصول والمرافق العامّة من خلال صندوق جديد، ربما بسبب سيطرة الحركة أساسًا على مقاليد الأمور في وزارة الماليّة ورئاسة مجلس النوّاب، ما يعطيها السيطرة والتأثير على عمليّات التلزيم والاستثمار على المدى البعيد.
لهذا السبب، اكتفى المشروع المطروح من قبل أمل باقتراح إنشاء هيئة للمراقبة والإشراف على تفعيل المرافق والشركات العامّة، وهيئة أخرى للمراقبة والإشراف على الأملاك العامّة، من دون الغوص بعيدًا في منح الهيئتين صلاحيّات واسعة، بما يمكن أن يقيّد عمليّات تلزيم استثمار المرافق والأملاك العامّة لحساب القطاع الخاص.
ومع ذلك، حرص مشروع القانون على الإلتزام بالنموذج المالي الذي تقترحه جمعيّة المصارف، من خلال ربط عمليّة استثمار جميع المرافق والأملاك العامّة بحساب خاص في مصرف لبنان، ليتم توزيع هذه الأموال لاحقًا على المصارف ومن ثم التسديد للمودعين.
بهذا المعنى، ترغب حركة أمل بإبقاء يد المنظومة طليقة في عمليّات الشراكة مع القطاع الخاص والتلزيم، مع التسليم باستفادة المصارف –لا الدولة- من عائدات هذه الاستثمارات. ومن الناحية العمليّة، لا يقدّم مشروع القانون أي تفاصيل بخصوص الآليّات التي سيتم اعتمادها لتلزيم استثمار الأصول العامّة، باستثناء الحديث عن “مزايدة عموميّة عالميّة”(؟). وهذا المشهد، يجعل الهيئتين الرقابيّتين، ومعهما آليّة التلزيم المنصوص عنها، مجرّد شكليّات على هامش صفقات تحاصص التلزيمات، التي ستتم وفق الآليّات المعتمدة راهنًا. أمّا الأهم، فهو أنّ مشروع القانون تجاهل الجانب المتعلّق بالأرقام والتفاصيل التقنيّة الماليّة، ما يوحي بأن مشروع القانون لم يستهدف فعلًا التعامل مع هذا الجانب من الأزمة.
القوّات اللبنانيّة: مؤسسة جديدة بأطر حوكمة خاصّة بها
بعكس حركة أمل، بدت القوّات اللبنانيّة مهتمّة بتقييد عمليّة الاستثمار، من خلال مؤسسة جديدة كليًا، ستختص بإدارة جميع المرافق والأصول العامّة، وتنظيم عمليّة تلزيمها. كما حرصت القوّات على تقييد دور وزارة الماليّة ومجلس الوزراء في اختيار مجلس إدارة المؤسسة، عبر تشكيل المجلس من أعضاء حكميين (أي يستمدون عضويتهم من خلال مناصب أخرى يشغلونها)، بدل أن يتم اقتراح أعضاء المجلس من قبل وزير الماليّة أو تعيينهم من قبل مجلس الوزراء.
وبحسب مشروع القانون، سيتشكّل المجلس من نقباء المحامين والمهندسين (في بيروت وطرابلس) والمحاسبين المجازين، بالإضافة إلى رئيس هيئة الشراء العام ورئيس المجلس الاقتصادي الاجتماعي ورئيس المجلس الأعلى للخصخصة وحاكم مصرف لبنان. وبهذا الشكل، يعكس مشروع قانون القوّات رغبتها بتقليص سطوة القوى السياسيّة النافذة الأخرى، في مجلسي النوّاب والوزراء ووزارة الماليّة، في كل هذا المسار.
ورغم أن مشروع القوّات يقيّد التأثير السياسي -وخصوصًا من جانب السلطة التنفيذيّة- على عمليّة إدارة التلزيمات، إلا أنّه ينطوي على إشكاليّات من نوع آخر، لجهة التعارض ما بين آليّة التلزيم المنصوص عنها في القانون، وآليّات التلزيم التي يفترض أن ترعاها الهيئات الناظمة في كل قطاع (الكهرباء والاتصالات مثلًا). وتكمن المشكلة الأساسيّة هنا في أن مشروع القانون ينيط عمليّة إدارة قطاعات مختلفة، وذات خصائص تقنيّة متباينة جدًا، بمجلس إدارة واحد، بدلًا من التركيز على إعطاء الصلاحيّات للهيئات الناظمة، التي تملك الاختصاص التقني في كل قطاع.
أمّا في ما يخص وجهة استعمال الإيرادات، فينص مشروع القانون على استخدام نصف عائدات استثمار المرافق العامّة لتمويل صندوق إعادة تكوين الودائع، ما يجعل هدفه المالي مشابهًا لمشروعي حركة أمل وجمعيّة المصارف.
باسيل: الرئاسة مقابل الصندوق
وحده النائب جبران باسيل فضّل الابتعاد –حتّى هذه اللحظة- عن طرح الصيغة التي يريدها لما يسمّيه “الصندوق الإئتماني”، والذي يفترض أن يحقق نفس الغاية التي تنشدها جمعيّة المصارف وحركة أمل والقوّات اللبنانيّة. تريّث باسيل حتّى اللحظة، يعود لربطه ما بين الصيغة التي يريدها لهذا الصندوق، والمفاوضات المتعلّقة بالملف الرئاسي، وهو ما أعلن عنه بصراحة في وقت سابق. مع الإشارة إلى أنّ باسيل يدرك أنّه يتشارك مع الغالبيّة الساحقة من القوى السياسيّة الهدف المالي من الفكرة، ما يعني أنّ ما يستهدفه من التفاوض حول هذا الملف يرتبط بطريقة الإشراف على الصندوق، والجهة التي ستدير عمليّة التلزيم فيه.
باختصار، وبعد تعثّر مسار التفاوض مع صندوق النقد، وفرملة مسار إعادة هيكلة القطاع المصرفي، بات هناك إجماع من قبل غالبيّة القوى السياسيّة على فكرة تحميل الدولة خسائر القطاع المصرفي، على قاعدة “عفا الله عن ما مضى”، وطمس الجريمة الماليّة التي تم اقترافها بحق الشعب اللبناني. أمّا الخلاف الأساسي الآن، فهو شكل الصندوق وطريقة إدارته، أي حول الجهة التي ستقود تحاصص التلزيمات فيه. وعلى هذا النحو، ستكون الفكرة بأسرها نهبًا للمستقبل، بعدما تم نهب الماضي بارتكابات المرحلة السابقة، ونهب الحاضر بطريقة إدارة الانهيار.