نشر مصرف لبنان هذا الأسبوع البيان المالي الموجز، الذي يعكس وضعيّته لغاية منتصف شهر تمّوز الحالي. الواضح من بنود البيان، هو استمرار المصرف ووزارة الماليّة في اتبّاع سياسة احتجاز الإيرادات العامّة، في سبيل مراكمة احتياطات العملات الأجنبيّة في المصرف. وهذا ما أنتج إحدى أكبر الزيادات النصف شهريّة في بند ودائع القطاع العام لدى مصرف لبنان، بالتوازي مع زيادة مماثلة في بند الاحتياطات. وفي المقابل، ظلّت البنود التي تعبّر عن الخسائر تتذبذب، بالتوازي مع التذبذب في قيمة بند احتياطات الذهب.
الزيادة في إيردات الدولة المُحتجزة
الأرقام التي عرضها المصرف تُظهر أنّ حجم ودائع القطاع العام لدى مصرف لبنان ارتفع بحدود الـ 317.53 مليون دولار، بين بداية شهر تمّوز الحالي ومنتصفه.
وفي النتيجة، بات حجم هذه الودائع المتراكمة يتخطّى الـ 5.16 مليار دولار، بحلول منتصف الشهر، وهو ما يمثّل أعلى مستوى لهذا البند منذ رحيل الحاكم السابق رياض سلامة. وبهذا الشكل تكون القيادة الجديدة لمصرف لبنان قد رفعت حجم الإيرادات العامّة -أو أموال الدولة- المُحتجزة لديها بأكثر من 840 مليار دولار، منذ منتصف شهر شباط الماضي، أي منذ اعتماد المصرف المركزي سعر الصرف الجديد للتصريح عن الميزانيّة العامّة للمصرف.
الأكيد حتّى هذه اللحظة هو أنّ عمليّة احتجاز الإيرادات العامّة تتم بالتنسيق بين مصرف لبنان ووزارة الماليّة، وذلك من خلال عدّة مستويات مختلفة من القيود على الإنفاق:
– أولًا، ثمّة تنسيق يومي بين الطرفين على حجم الاعتمادات التي يمكن صرفها لكل إدارة رسميّة أو مؤسّسة عامّة، وهذا ما يُترجم عمليًا بإبطاء عمليّة صرف الاعتمادات ضمن السقوف المنصوص عنها في الموازنة. ومن هذه الزاوية، يمكن فهم التأخير الحاصل في منح هيئة أوجيرو السيولة المطلوبة لإتمام عمليّات الصيانة، رغم توفّر الاعتمادات الضروريّة لذلك في الموازنة العامّة التي أقرّها المجلس النيابي.
– ثانيًا، سقوف الإنفاق المُحددة في الموازنة، والتي أقرّها المجلس النيابي، جرى تثبيتها على أساس تقديرات منخفضة جدًا وغير واقعيّة للإيرادات. ومن المعلوم أن وزارة الماليّة عادت وغيّرت تقديراتها لحجم الإيرادات المتوقّعة خلال مناقشة الموازنة في الهيئة العامّة للمجلس النيابي، لتتوازى مع قيمة النفقات التي تم الاتفاق عليها بشكل متقشّف جدًا. وبذلك، وبدل تصحيح التقديرات المنخفضة وغير الواقعيّة، يتم استكمال العمل بموازنة عامّة ذات تقديرات “وهميّة” للإيرادات.
– ثالثًا، يمتلك وزير الماليّة صلاحيّة التحكّم بنفقات باب احتياطي الموازنة، أي سقف الإنفاق المسموح به من دون تحديد وجهته. وهكذا، وبعد “عصر” النفقات المسموح بها ضمن الموازنة، وبعد إبطاء عمليّة صرف الاعتمادات المسموح بها، يعود وزير الماليّة ويحدّد بشكل استنسابي النفقات الإضافيّة التي يمكن منحها لهذه الإدارة أو تلك.
– رابعًا وأخيرًا، يبقى لحاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري صلاحيّة التحكّم بعمليّات القطع، أي تحويل الإيرادات الموجودة للدولار الأميركي، لتمويل أي وجه من أوجه الإنفاق.
من الناحية العمليّة، يكون مصرف لبنان ووزارة الماليّة قد وضعا معًا سلسلة متكاملة من الحلقات التي تقيّد جميع أوجه الإنفاق العام، وتترك لوزير الماليّة والحاكم بالإنابة إدارة التدفّقات الماليّة لأي إدارة أو مؤسّسة، من دون معيار واضح. وهذا النوع من السياسات الماليّة والنقديّة، هو ما ظهرت نتائجه مؤخّرًا، على مستوى ترهّل أداء الإدارات الرسميّة والخدمات العامّة.
آليّة زيادة الاحتياطات
لهدف الواضح من هذا المسار بأسره، هو تمكين مصرف لبنان من استعمال الليرات التي يحصّلها من الإيرادات المحتجزة، لشراء الدولارات من السوق، من دون خلق كميات إضافيّة من النقد بالعملة المحليّة. أي بصورة أوضح، يريد مصرف لبنان جمع العملة الصعبة من السوق الموازية، لكنّه يريد تجنّب طبع الليرات لشرائها، كي لا يساهم في ضرب سعر صرف العملة المحليّة. ولذلك، يعمد المصرف المركزي إلى امتصاص الليرات من جهة، عبر حبس أموال الدولة، ومن ثم استعمال قيمة موازية منها للتدخّل في سوق القطع وجمع الدولارات.
من هذه الزاوية، يمكن فهم تزايد حجم احتياطات العملات الأجنبيّة بقيمة 818 مليون دولار منذ منتصف شهر شباط الماضي، في حين قيمة الليرات المتداولة بالسوق لم ترتفع إلا بنحو 76 مليون دولار. بهذا الشكل، اشترى مصرف لبنان العملة الصعبة، باستخدام الليرات التي حصّلها من الأموال العامّة، ومن دون أن يوسّع قيمة الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة إلا بقدر محدود جدًا. وهذا يعني مجدًدا، تحقيق أحد أهداف السياسة النقديّة، أي زيادة الاحتياطات، على حساب تهميش أهداف السياسة الماليّة، أي تمويل النفقات العامّة البديهيّة والضروريّة.
على مستوى احتياطات الذهب، ارتفعت قيمة هذا البند من 21.48 مليار دولار في بداية الشهر الحالي، إلى نحو 22.21 مليار دولار في منتصف الشهر، وبذلك بفعل الارتفاع في أسعار الذهب العالميّة. مع الإشارة إلى أنّ قيمة هذا البند لم تكن تتخطّى الـ 18.41 مليار دولار في منتصف شهر شباط، ما يعني أن مصرف لبنان حقق ربحًا بقيمة 3.79 مليار دولار منذ ذلك الوقت، بفعل ارتفاع قيمة احتياطات الذهب. وتمامًا كما جرى خلال الأشهر الماضيّة، قام مصرف لبنان بتزيل قيمة خسائره في الميزانيّة، في مقابل الارتفاع في أسعار الذهب.