بعد تسع سنوات على تولّيه النيابة العامة المالية، يقرّ القاضي علي إبراهيم بأنّه مكبّل اليدين، إذ أن تركيبة النظام اللبناني بشكل طائفي أنتجت محاصصة طائفية لا يُمكن أن تُنتج إلا فساداً مقونناً. أما الحل فـ«في تعديل قانوني، لأنّ النظام القانوني اللبناني مجهّز بشكل يحمي الفاسدين والمفسدين. لذلك تجد فساداً، لكنك لا ترى فاسدين». أحد الحلول قد يكون بإلغاء المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، على أن يعدّل القانون ليُصبح القضاء العدلي صالحاً لمحاكمة المسؤول الفاسد بشكل مباشر.
أوساط إبراهيم تقرّ بأنه قد يبدو ظاهراً أن إبراهيم يتلكّأ في بعض الملفات، «لكن الواقع أن تريثه بالادعاء مرده إلى أن سلطة الادعاء والاتهام ليست لديه، إنما لدى مجلس النواب. وبالتالي، المطلوب تعديل الدستور لرفع الحصانات». وفي الواقع، فإن ملفّات حسّاسة عدّة هزّت الرأي العام لضخامة حجم الأموال المنهوبة، ادّعت فيها النيابة العامة المالية، وتردّد فيها اسم النائب المالي العام، لكنّها غالباً ما سلكت مساراً قضائياً مثيراً للريبة، غالباً ما حُمّل وزره لإبراهيم كونه الأقرب إلى الواجهة الإعلامية، فيما «المشكلة تكمن في بنية النظام القضائي نفسه».
ففي ملف التخابر غير الشرعي، مثلاً، والذي تسبّب بهدر ملايين الدولارات من المال العام، ادّعى إبراهيم بالفعل على رئيس مجلس إدارة «Mtv» ميشال المرّ. ولكن، يؤخذ عليه أنه بدل إحالة الملف إلى قاضي التحقيق للتوسع في التحقيقات، أحاله إلى القاضي المنفرد الجزائي في المتن منصور قاعي الذي منع المحاكمة عن المرّ «لعدم وجود جُرم». استأنفت النيابة العامة المالية وهيئة القضايا القرار، وكُلّفت شركة متخصصة وضع تقرير قدّر أنّ شركة المرّ أجرت اتصالات بـ 300 مليون دقيقة أو ما قيمته مليونا دولار (دفع المر من أصلها مليون دولار). غير أنّ المرّ اعترض على التقرير وتقدم باستئناف طارئ مدعياً على مؤسسة «أوجيرو »بالتزوير. وعلمت «الأخبار» أنّ قراراً صدر بردّ الادعاء لتُستكمل المحاكمة في محكمة استئناف الجزاء لدى القاضي فيصل حيدر. وإذا ما أُدين المرّ هنا، يُصبح لزاماً السؤال لماذا بُرئ سابقاً أمام القاضي المنفرد الجزائي في المتن؟ ويُصبح السؤال واجباً: أيُّ القاضيين يكذب؟
مصادر قريبة من إبراهيم تعزو عدم إحالة هذا الملف إلى قاضي التحقيق إلى أن «هناك نحو أربعة آلاف ملف تُحال سنوياً إلى القضاة المنفردين الجزائيين، ولكون الملف سيصل في النهاية إلى القاضي المنفرد الجزائي». أما عدم ادعائه على آخرين، فسببه أنّ «أحداً لم يُبلغ عن آخرين في هذا الملف».
فساد النظام برمّته لا يمكن لقاضٍ واحد مواجهته في ظل غياب بقية هيئات الرقابة
الحسابات المالية للدولة اللبنانية ملف آخر شديد الحساسية تردّد فيه اسم إبراهيم بقوة، وبدأ التحقيق فيه قبل أحد عشر شهراً بعدما قدّم النائب حسن فضل الله إخباراً إلى النائب العام المالي… لكن من دون أن يصل إلى أي نتيجة بعد. البطء الشديد الذي يعتري مسار هذا الملف يشي بمماطلة غير مبرّرة، ويطرح أسئلة مشروعة حول النتائج التي خلص إليها إبراهيم. مصادر الأخير تؤكّد أنّ «جلسات أسبوعية تُعقد في هذا الملف، وقد تم الاستماع إلى عشرات الأشخاص» من بينهم رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة. وهو طلب من مصرف لبنان لائحة بالهبات الممنوحة للجمهورية اللبنانية التي طُلِبَ وضعها في حسابات خاصة في مصرف لبنان على أن يُحدّد من صرفها. كما أن وزير المال السابق علي حسن خليل أودع إبراهيم، قبل أسابيع فقط، تقريراً مفصّلاً عن الحسابات المالية للدولة منذ عام 1993 حتى عام 2017 يتضمن كل تفاصيل الملف، علماً أنّ هذا التقرير كان يُفترض أن يُنجز قبل سنوات.
وهنا، أيضاً، تُطرح مسألة أخرى في شأن إحالة إبراهيم وزراء الاتصالات السابقين جمال الجرّاح وبطرس حرب ونقولا الصحناوي إلى المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء بعد الادعاء عليهم بهدر المال العام، إذ يُتّهم بأنّه أحال هؤلاء إلى محكمة معطّلة ومحاكمة لن تؤدي إلى نتيجة، في حين كان الأجدر به إحالتهم إلى قاضي التحقيق لاستجوابهم! غير أنّ لإبراهيم، بحسب مصادر قريبة منه، رأياً آخر: «أولاً المحكمة قائمة بالقانون، والسياسيون يتحمّلون مسؤولية تعطيلها. ثانياً: لو أحالهم النائب العام المالي إلى قاضي التحقيق، لكان سيتكرر السيناريو نفسه عندما أحيل السنيورة وآخرون الى قاضي التحقيق في بيروت عام 2000 للتحقيق معهم في ملف فساد في وزارة المالية، إذ اعتبرت الهيئة العامة لمحكمة التمييز، يومها، أن لا اختصاص لها بوجود محكمة خاصة، وخلُصت إلى عدم صلاحية القضاء الجزائي العادي بمحاكمة الوزراء».
ملف الجمارك…
ملف الجمارك بين يدي إبراهيم أيضاً، وهو مزراب هدر يُضيّع على خزينة الدولة بين 800 مليون وملياري دولار سنوياً، بحسب تقديرات المجلس الأعلى للجمارك. جُل ما سُجّل في هذا الملف طوال سنوات هو توقيف بضع عمليات تهريب هواتف في مطار بيروت، وتوقيف عقيد في مديرية الجمارك تدخّلت جهات عدة لإطلاقه. واللافت أن إبراهيم، في هذا الملف، يتحرك على إيقاع التقارير التلفزيونية التي تبثها قناة «الجديد»، وهو ما تعزوه مصادر قريبة منه إلى تقاعس الضابطة العدلية عن القيام بواجباتها، إذ أن «القاضي يتحرّك بموجب إخبار يُقدّم إليه. وعندما يكون عناصر من هذه الضابطة المكلّفة بإبلاغه غارقة في الفساد، يُصبح الإعلام واحداً من مصادر القاضي الأساسية»، ناهيك عن أن فساد النظام برمّته لا يمكن لقاضٍ واحد مواجهته، في ظل غياب بقية هيئات الرقابة. «فعلى سبيل المثال، يمكن للنائب العام المالي التدخّل عند استشعاره تلاعباً في تنفيذ عقود قائمة بين الدولة والشركات المتعهّدة. ولكن لا علاقة له بقيمة العقود وما إذا كان مبالغاً فيها، لأن ذلك من اختصاص ديوان المحاسبة ووظيفته في الرقابة المسبقة على هذا النوع من العقود».
… والأملاك البحرية…
ملف الأملاك البحرية واحد من الملفات التي يؤخذ على إبراهيم تهاونه في التعامل معها. فهو أصدر قراراً بإزالة 1200 مخالفة عن شاطئ البحر في منطقة الأوزاعي. لكنه تغاضى عن مئات الاعتداءات التي يرتكبها أصحاب الحظوة في حق الأملاك البحرية على طول الشاطى اللبناني. مصادر النائب العام المالي تؤكد أنّه أصدر قراراً بإزالة كل الاعتداءات والمخالفات القائمة على الأملاك البحرية بعد ١٥ تشرين الثاني ٢٠١٥. إلا أنّ مرتكبي المخالفات تمكنوا من الالتفاف عليه عبر المجلس النيابي الذي أصدر قانوناً لتسوية المخالفات مقابل مبالغ رمزية، إضافة إلى إعاقة ملاحقاته بقوانين الحصانة البالية حتى بات في النيابة العامة المالية صندوق يُسمّى تهكّماً بـ «صندوق الحصانات» يضم عشرات طلبات الإذن بالملاحقة، «ويكاد الحصول على إذن لملاحقة مختار أو رئيس بلدية من وزارة الداخلية والمحافظين يحتاج إلى معجزة». ناهيك عن الخلل الناتج عن عدم وجود مهلة للرد على طلبات أذونات الملاحقة وعدم ردّ المراجع، ما يؤدي إلى دفن الملفات، وهذا ما دفع النائب العام التمييزي غسان عويدات أخيراً إلى إصدار تعميم اعتبر فيه أنّ إذن الملاحقة يُصبح قائماً خلال شهر في حال عدم إجابة المرجع المطلوب الإذن منه.
… الضمان والمسح العقاري
في ملف فساد الضمان الاجتماعي، ادعى النائب العام المالي مرّتين على رئيس اللجنة الفنية في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي سمير عون بجرائم تزوير في السجلات الرسمية واختلاس أموال عمومية والرشوة وإساءة الأمانة وصرف النفوذ. غير أنّ الأخير لا يزال يُزاول مهامه بشكل اعتيادي! أوساط إبراهيم تؤكد أن «مهمة النائب العام المالي الادعاء والتحقيقات تبيّن التورّط من عدمه. وهو قام بواجبه في هذه الملفات. بعد ذلك تُصبح المسؤولية على قاضي التحقيق وقاضي الحكم»، مشيرة إلى أن إبراهيم أوقف في ملف الضمان عدداً من الأشخاص. وادعى على أطباء وصيادلة.
أما في ملف المسح العقاري والمشاعات، فقد ادعى إبراهيم على مختارين وأوقف اثنين آخرين، وطلب الإذن بملاحقة مخاتير من دون أن تأتي الموافقة بعد. مصادر إبراهيم تؤكد أنّ هذه المسؤولية منعقدة على القاضي العقاري حصراً، وأنّ المدّعي العام المالي كلّف مسّاحين محلّفين لتحديد أراضي الدولة (المشاعات) في عدد من القرى، وتم تحرير 1513محضراً لإزالة تعديات مخالفات البناء على مشاعات الدولة على كامل أراضي الجمهورية. المصادر نفسها تشير إلى أنه في ملف استرداد أموال للدولة بموجب عقود بيع ممسوحة، تمكن إبراهيم من إعادة نحو 360 مليون دولار إلى خزينة الدولة، معظمها ناتج فارق الرسم على عقود البيع الممسوحة.