أموال مكدّسة في الحساب 36 وقانون يسمح بإنفاق مليار دولار فوراً: أين «الدولة» من إعادة الإعمار؟

ثمّة سردية رائجة في هذه الأيام مفادها أن إعادة الإعمار يجب أن تحصل من خلال «الدولة» التي استعيدت من حزب الله، وأن يتم ذلك بواسطة «صندوق خاص» يديره البنك الدولي، وتجمع فيه القروض والهبات من المانحين الدوليين. يعني، ببساطة، نحن مدعوون إلى حفلة تسوّل جديدة، ولو أن الجميع يعرف أن نجاحها يبقى رهن تحقّق شروط واضحة عنوانها «المتطلبات الأساسية للإصلاح» كما عبّر عنها نائب رئيس البنك الدولي عثمان ديون بعد لقائه وزير المال ياسين جابر، ما يقود إلى الاستنتاج الأكثر خطورة، وهو ربط إعادة الإعمار بقنوات الضغط الخارجية التي ترفض التمويل مجاناً.

لكن، أين «الدولة» من كل ذلك، ألا تملك الموارد المناسبة، وهل هي فعلاً غير قادرة على تأمين انطلاقة مشروع إعادة الإعمار من دون تحميله الضغوط الخارجية؟

السردية التي تربط الإعمار بالخارج تعترف بأن العدو أحدث كل هذا الدمار، لكنها تقول لنا إنها قاصرة رغم استعادة «الدولة وقرار الحرب والسلم فيها»، وأنها لن تتحرك من دون تمويل خارجي. ثم تضيف أن استقطاب «الدعم الخارجي» يتطلّب «شفافية» لا يملكها إلا البنك الدولي، لذلك ستوكل إليه مهمة تأسيس الصندوق والإشراف على إنفاق الأموال. وبناءً عليه، اجتمع ديون يرافقه المدير الإقليمي جان كريستوف كاريه، مع وزير المال.

ولخّص البيان الصادر عن الاجتماع أن البنك الدولي سيمنح لبنان قرضاً بقيمة 250 مليون دولار ليكون عامل جذب للمانحين الآخرين من هبات وقروض، ليصل حجم الصندوق إلى مليار دولار بحسب ديون الذي قال: «سنذهب إلى مجلس إدارة البنك الدولي بمشروع بقيمة 2 مليار»! وبرأيه، فإن جهود إنشاء الصندوق «ستتوافق مع أجندة الحكومة الجديدة وستشكل أساساً للتقدّم». وردّاً على سؤال يتعلق بوجود شروط لـ«تأمين الدعم للبنان»، أجاب: «أنتم تتحدّثون عن شروط للإصلاحات أو توصيات محدّدة، بينما أنا أتحدّث عن المتطلّبات الأساسية للإصلاحات».

كلام ديون لا يحتاج إلى تفسير في ما يمكن اعتباره المتطلبات الأساسية للإصلاحات، أو في الاعتبارات التي تدفعه إلى الحديث عن توافق بين أجندة الحكومة والبنك الدولي وعما يشكّل أساساً للتقدّم. بل هو يترجم الجزء المعروف من السردية: الحصول على الدعم يتطلّب نزع سلاح حزب الله (وربما الانخراط في مشروع التطبيع أو السلام الموعود).

بمعزل عن أي نقاش في عمق الحفرة التي وقع فيها لبنان من الإفلاس المصرفي والنقدي، وصولاً إلى العدوان الإسرائيلي، وبما ظنّه كثيرون بأن هذه التغييرات في شكل السلطة تمثّل فرصة للتغيير الجذري، فإن التحوّل الحاصل في شكل السلطة كان قائماً على حصرية «الدولة» في كل الملفات. لكنّ هذه «الدولة» لم تتحرّك بعد في اتجاه إعادة الإعمار، ولا توجد مؤشرات على أنها ستفعل قريباً. فعلى جدول أعمال جلسة مجلس الوزراء التي ستُعقد اليوم، بند أساسي وحيد أتى كأنه وليد بيروقراطية متكاسلة: آلية تنفيذ الإصلاحات التي تضمّنها البيان الوزاري. إعادة الإعمار ليست ضمن هذه الإصلاحات حتماً، ما يعني أن الحكومة لم تعقد العزم بعد على إعداد خطّة لإعادة الإعمار، ولا تسعى لتخصيص الأموال اللازمة لذلك طالما تراهن على التسوّل من الخارج.

وعلى هذا المنوال، لم تدفع الحكومة أي قرش بعد لمتعهد إزالة الردم في الضاحية الجنوبية رغم أنه تقدّم في الأعمال، بل إن الردم المنقول من الضاحية يتكدّس في «بورة» بحجّة أنه لم يتم الاتفاق على مكان لنقلها إليه بعد فرزه وتكسيره. كذلك لم تبدأ بعد ورشة إزالة الردم في الجنوب والبقاع. وليس مطروحاً تخصيص أي أموال للإيواء لا عبر مجلس الجنوب ولا عبر الهيئة العليا للإغاثة ولا حتى عبر صندوق المهجرين. وفي المقابل، سُجّل جنوباً أن «الدولة» حضرت عبر قوى الأمن الداخلي التي سطّرت محاضر ضبط في من تجرّأ بنفسه على بدء إعادة الإعمار!

هل نحن بحاجة فعلاً إلى الصندوق؟

ما يحتاج إليه لبنان من أجل إطلاق ورشة إعادة الإعمار، هو التمويل. وبحسب المعلومات المتوافرة من مصادر مسؤولة، فإن حساب الخزينة (المعروف بحساب الـ36) لدى مصرف لبنان، فيه أكثر من مليار دولار قابلة للاستعمال فوراً. وفيه مبالغ إضافية متراكمة من السنوات الماضية بما يفوق المبلغ القابل للاستعمال، إنما في ظل قرار مصرف لبنان بالامتناع عن صرف أي مبالغ ليست مغطّاة بقانون، سواء قانون الموازنة أو أي قانون آخر، فإن إنفاق هذه الأموال يتطلّب إصدار مجلس النواب قانوناً يشرّع استعمالها. واستعمالها ممكن بعد اتخاذ تدابير تتعلق بالسياسة النقدية، لأن ضخّ الأموال بطريقة عشوائية قد ينعكس سلباً على سعر الصرف.

إذاً، هل المطلوب من «الدولة» أن «تتفرّج» وتمارس الانتظار؟ قد يُردّ على هذا الأمر بخبث سياسي مفاده أن الأموال المتوافرة لدى الدولة يجب أن تُستعمل من أجل ردّ أموال المودعين الذين يمثّلون أولوية تعهّدت بها الحكومة في بيانها الوزاري. هذا الأمر ينقل النقاش نحو اتجاه أكثر جذرية: هل مارست الدولة التقشّف الشديد خلال السنوات الماضية لتكديس الأموال في حساباتها، بينما هي تعمل الآن على المفاضلة بين المودعين وإعادة الإعمار؟ هل كانت تنوي تسديد هذه الأموال للمودعين أصلاً؟ ألا يوجد في حسابات مصرف لبنان بالعملة الأجنبية أكثر من 10 مليارات دولار تُصنّف بشكل أو بآخر على أنها من «حقوق المودعين»؟

عملياً، كل المشاريع التي يفترض أن تنفق عليها الدولة من أجل تثبيت الشباب في أرضهم ومنع هجرتهم إلى الخارج، مثل التغطية الصحية الشاملة للمقيمين، والنقل العام المشترك، والاستثمار في خلق الوظائف… ليست مُدرجة على أجندة المانحين. فهل كان تكديس الأموال مقبولاً في السابق، وأصبح الإنفاق على تثبيت الناس في أرضهم مرفوضاً؟ بهذا المعنى، يتم تبرير ما يتردّد بأن رئيس الحكومة نواف سلام يدرس مشروعاً أتاه من المصارف الكبرى باستعمال جزء من الذهب لتسوية ملفات كبار المودعين. لكنّ الواقع، أن «الدولة» هي سلطة اتخاذ القرار بعد درس الخيارات المتاحة التي لا يفترض أن تخلو من وسائل تدمج بين الأولويات. لكن عليها أن تبدأ، لا أن تراهن على التسوّل.

مصدرجريدة الأخبار - محمد وهبة
المادة السابقةهيئة إدارية جديدة لجمعية وكالة التنمية الاقتصادية المحلية في شمال لبنان
المقالة القادمةهل سيُرفع الحد الأدنى للأجور إلى اكثر من ٥٥٠ دولارا اميركيا؟