أخذ نظام سعر الصرف أهمّية كبيرة بعد انهيار نظام بريتون وودز في العام 1971 حيث ومع انتقال العديد من الدول إلى نظام العملات العائمة، كانت الدول الناشئة تبحث في أي نظام سعر صرف يجب اعتماده بين نظام ثابت أو عائم أو وسيط في ظل التطورات الجيوسياسية والهيكلية الاقتصادية العالمية الناتجة من هذه التطوّرات.
من الناحية النظرية، يستند الجدل القائم على نظام سعر الصرف الى مقال للباحث الاقتصادي مانديل (Mundell 1961) بعنوان «A Theory of Optimum Currency Areas» والذي استدرج العديد من الباحثين تناولت تبريراتهم بالدرجة الأولى العوامل الاقتصادية والمالية والنقدية لتبرير اختيار سعر الصرف.
شهد نموذج هيكس هانسن (IS-LM) الذي ربط الإنتاج الحقيقي في سوق السلع والخدمات بسوق المال (من قبل النيوكلاسيكيين) ، نجاحًا كبيرًا. إلا أن ظهور نموذج IS-LM-BP (الذي وضعه ماركوس فليمنج) فاقه في التفسير مع أخذه بعين الاعتبار نظام سعر الصرف وميزان المدفوعات. وشكّل نموذج IS-LM-BP مصدر وحي للاقتصادي روبرت مانديل، الذي اقترح وجود استحالة توافق بين ثلاثة أمور: حرية تنقل رأس المال، سعر صرف ثابت، وسياسية نقدية مستقلّة قادرة على التعامل مع المشاكل الداخلية للاقتصاد كالتضخّم.
تنصّ مهام الحكومات في النظرية الاقتصادية على تحقيق التوازن الداخلي (ثبات الأسعار، والتوظيف الكامل) والتوازن الخارجي (الحساب الجاري) وإيجاد سعر صرف يتلاءم والتوازن الداخلي والخارجي. من هذا المنطلق قامت العديد من الدراسات العلمية بالبحث عن العوامل التي تحدّد نظام سعر الصرف بهدف ضمان نمو اقتصادي واستدامته.
إقتصاديًا تبرز العوامل الاقتصادية التي تساعد في اختيار نظام سعر الصرف من خلال نظرية منديل والتي تسمح بالاختيار بين نظام ثابت أو عائم. واقترح منديل أن البلدان التي لا تتحرك فيها عوامل رأس المال والعمالة قد تتبنى نظام سعر صرف مرن بينما البلدان التي تتميز بحركة عوامل الإنتاج الخاصة بها يكون من الأرجح أن تختار نظام سعر صرف ثابت. وبحسب مثلث عدم التوافق، يبقى خيار حرّية تنقل رأس المال واستقلالية السياسة النقدية هو المُحدّد الأساسي لنظام سعر الصرف. أمّا ماك كينون (Mckinnon 1963) فقد اقترح أنه كلما زاد انفتاح الاقتصاد، زادت احتمالية اختيار نظام سعر صرف ثابت، وكلما زاد تنوع الاقتصاد زادت احتمالية اختيار نظام سعر الصرف الثابت والعكس صحيح. ويُعتبر مستوى الاحتياطي من العملات الأجنبية من العوامل الرئيسية للحفاظ على نظام سعر صرف ثابت، وبالتالي من شبه المستحيل نجاح اعتماد نظام ثابت دون وجود مستوى كبير من هذه الاحتياطيات.
أيضًا من العوامل الاقتصادية الأخرى التي تؤثر باختيار نظام سعر الصرف، طبيعة الصدمات التي قد يتعرّض لها الاقتصاد. على هذا الصعيد يؤكّد منديل (ومن بعده ملفين) أنه في حالة حدوث صدمات حقيقية، يكون نظام سعر الصرف المرن أكثر ملاءمة ، بينما في حالة الصدمات الاسمية، يكون نظام سعر الصرف الثابت أكثر ملاءمة للتعامل بشكل أفضل.
تطورت النظرية المتعلقة باختيار نظام سعر الصرف، لتأخذ بعين الاعتبار عوامل أخرى مثل العوامل السياسية والمؤسسية التي تؤدي دورًا مهمًا في تحديد اختيار نظام سعر الصرف. وأكّد الباحثون (مثل Markiewicz 2006) أن العوامل السياسية والمؤسسية تؤثر في اختيار أنظمة سعر الصرف وتعطي خارطة طريق حول ديناميكيات الاختيار (Maraoui 2021).
فعدم الاستقرار السياسي يؤثر بشكل كبير في خيار نظام سعر الصرف. وبحسب بعض الباحثين (مثلًا Frieden 2010) فإن عدم الاستقرار السياسي يشمل الظروف الاجتماعية والاقتصادية والصراعات الداخلية واستقرار الحكومة. وبالتالي فإن حكومة غير مستقرة لا يمكنها اختيار سعر صرف ثابت.
إضافة إلى عدم الاستقرار السياسي، يمكن لنوع النظام السياسي أن يؤدي دورًا كبيرًا في اختيار سعر الصرف. فمثلًا في الأنظمة الديموقراطية يرتبط النظام بسعر صرف مرن، في حين أنه في الأنظمة الأوتوقراطية لا يثق المستثمرون بالإجراءات الحكومية وبالتالي فإن المصداقية لا يمكن ضمانها إلا مع سعر صرف ثابت (Steinberg 2015).
إقترح الباحثان فريدن وستاين (2001) أن الانتخابات في المؤسسات الديموقراطية تؤثر في سياسة سعر الصرف نظرًا لأن السياسيين يعمدون إلى تجنب انخفاض قيمة العملة خلال فترة الانتخابات. لذا يلجأ هؤلاء إلى نظام سعر صرف ثابت.
ضعف أو قوّة الحكومة له تأثير في نظام سعر الصرف، فقد أشارت دراسات إلى أن الحكومات الضعيفة لا يمكنها أن تختار نظامًا ثابتًا لسعر الصرف. ويبرَّر هذا الأمر من منطلق أن الاستجابة للصدمات الخارجية تفرض تعديلات داخلية مع استبعاد استخدام السياسة النقدية لتحفيز الاقتصاد الوطني.
أيضًا لجودة مؤسسات الدولة تأثير كبير في اختيار نظام سعر الصرف حيث تعتمد الدراسات على مؤشرات مثل الفساد والبيروقراطية وتطبيق القانون لتحديد جودة المؤسسات. وبالتالي وفي ظل جودة مؤسسية رديئة من الصعب جدًا الحفاظ على نظام سعر صرف ثابت. وتنصّ دراسات أخرى (Fraj 2018) على أن الجودة الرديئة تفرض تبنّي نظام سعر صرف ثابت.
وعن العلاقة بين سياسة سعر الصرف واستقلالية المصارف المركزية، تُؤكّد الدراسات أن الارتباط وثيق. فالدول ذات المصارف المركزية المستقلّة تفضل تثبيت سعر الصرف بهدف تأمين مصداقية للسيطرة على التضخم (Jacome & Vozquez, 2008 وغيرهما). هذا الأمر لا يوافق عليه بعض الباحثين (مثل Walter 2013) الذين وجدوا أن المصارف المركزية المستقلّة ترتبط بنظام سعر صرف مرن بحكم أن استقلالية المركزي تجعله يحجم عن خفض سعر الفائدة.
تستند نظرية سياسة الاقتصاد الكلي (1977Hibbs ) الى فكرة أن الأحزاب السياسية تؤثّر بشكل مختلف في الأداء الاقتصادي (التضخم والبطالة… إلخ) وبالتالي قد تؤثر في اختيار نظام سعر الصرف. من هذا المنطلق، اقترحت (Alesina1988) نموذجًا بديلًا ينصّ على أن الأحزاب اليسارية تستخدم سياسة الاقتصاد الكلي التوسعية وبالتالي تتبنى نظام سعر صرف مرن، في حين أن الأحزاب اليمينية أكثر اهتمامًا باستقرار الاقتصاد وتحافظ على نظام سعر الصرف الثابت.
من كلّ ما تقدّم نرى أن الواقع اللبناني المعقدّ يجعل خيار نظام سعر الصرف أمرًا صعبًا حتى لو أن التوجّه العام في مفاوضات صندوق النقد الدولي هو نحو سعر صرف عائم. وفي حين يطالب البعض باعتماد نظام الصرف الثابت بنسخته المتشدّدة، يطالب البعض الاخر باعتماد فوري لنظام عائم من دون أن يكون هناك دراسات كمّية لمعرفة تداعيات كل خيار. على كل الأحوال، ما هو مطلوب بالدرجة الأولى هو استقرار الأسعار، وهذا الأمر لا يمكن ضمانه إلا من خلال استقرار نسبي لسعر الصرف مع ضبط للّعبة الاقتصادية خصوصًا التهريب والفساد الذين يشكّلان الخللّ الأساسي في اللعبة الاقتصادية.