شوائب كثيرة اعترت موازنة 2024 على غرار الموازنات السابقة، على صعيد الشكل والمضمون الذي لم يحقِّق الأهداف المرجوّة من الموازنات، إلاّ في حدود ما تريده السلطة السياسية لتلميع صورتها أمام المجتمع الدولي، لناحية الالتزام بإجراء الإصلاحات المطلوبة منها. وككل عام، يشهد المجلس النيابي “مسرحية” بين الكتل النيابية، عنوانها رفض تحميل المواطنين عبء الأزمة والمزيد من رفع الضرائب والرسوم. لكن تأتي الموازنات مثقلة بضرائب ورسوم لا تؤدّي أغراضها الاقتصادية والاجتماعية، وفي مقدّمتها إعادة توزيع الثروة وضمان الحماية الاجتماعية.
وانطلاقاً من نماذج الموازنات السابقة ونتائجها، يصبح التساؤل حول نتائج الطعن بموازنة العام الجاري، مشروعاً. لكن التجارب الماضية غير مشجِّعة، الأمر الذي يترك المواطنين، وتحديداً موظّفي القطاع العام، في دوّامة تآكل رواتبهم رغم الزيادات التي تطرأ عليها.
الطعن قد لا يُجدي نفعاً
يُعوَّلُ في الغالب على أجهزة الدولة الرقابية، للتصدي للقرارات والقوانين ذات النتائج المجحفة أو تلك المخالفة للدستور. لكن في حالة الموازنة، يبقى للمجلس الدستوري رأيٌ مغاير، إذ يرضى استثنائياً بمخالفة الموازنات المتعاقبة للدستور، تحت غطاء “انتظام المالية العامة”. وهذا التبرير حاضرٌ لإيقاف مفاعيل الطعن بموازنة العام 2024، والذي قدّمه النواب غسان حاصباني وجورج عقيص ورازي الحاج، باسم تكتل الجمهورية القوية.
الطعن المقدَّم يوم أمس استند إلى “غياب قطع الحساب وفرسان الموازنة”. ومع ذلك، قد لا يعتبر المجلس الدستوري الأسباب التي استند إليها النواب، موجبة حكماً لإبطال الموازنة في الظرف الحالي للبلاد. إذ قد يستند المجلس إلى تجارب سابقة لعدم ردّ الموازنة، كما حصل في العامين 2018 و2022 على سبيل المثال. والسلطة السياسية قد تدفع باتجاه عدم إبطال الموازنة كي تمرِّرَ تصفير العجز وتُكمِل رسم صورة مغايرة للموازنات السابقة، في نظر صندوق النقد والبنك الدولي.
الخيارات مفتوحة أمام المجلس الدستوري. وبرأي رئيسه القاضي طنّوس مشلب “سنرى ما الجديد في الطعن الحالي”. ومع أن المجلس لم يبحث بعد في مضمون الطعن، لكن مشلب يؤكّد لـ”المدن”، أنه “من الممكن أن يعارض أحد أعضاء المجلس تمرير الموازنة، ويؤيّد إبطالها”. وعن الاستناد إلى ما حصل في التجارب السابقة، يشير مشلب إلى أنه “كان هناك آراء مختلفة حينها، لكنها أجمعت على عدم جواز إقرار موازنة من دون قطع حساب، لأن ذلك يُعَدّ مخالفة دستورية”. علماً أن المادة 87 من الدستور، نصَّت حرفياً على أن “حسابات الإدارة المالية النهائية لكل سنة يجب أن تعرض على المجلس (النواب) ليوافق عليها قبل نشر موازنة السنة الثانية التي تلي تلك السنة”.
استثناء لا يُبنى عليه كقاعدة
يرفض الرئيس السابق للمجلس الدستوري القاضي عصام سليمان، اعتماد تجربة تمرير الموازنة في العام 2018 كقاعدة عامة لتمرير الموازنات اللاحقة. ويعتبر في حديث لـ”المدن”، أن قرار المجلس في العام 2018 “فُهِمَ بشكل خاطىء”. ويشرح أن الفارق يومها كان في “الأوضاع الشاذة في لبنان، إذ تقاعَسَ المسؤولون في الدولة عن القيام بواجبهم في إعداد وإقرار الموازنات منذ العام 2005”. في ذلك الوقت، كان لا بد من تمرير الموازنة وإن كانت مخالِفة للدستور، إذ جاءت وفق مناخ عام يستوجب إطلاق مسار إقرار الموازنات العامة، فضلاً عن “التحضير لمؤتمر سيدر، حين كان مطلوباً من السلطة السياسية إقرار موازنة”.
ولذلك، يجزم سليمان أن تمرير المجلس للموازنة “جاء عبارة عن اجتهاد اعتبرنا فيه أن الأولوية هي لوجود موازنة وإن لم يكن هناك قطع حساب، لكننا أكّدنا أيضاً على ضرورة الإسراع في وضع قطع الحساب. وما حصل لاحقاً، هو أن الاستثناء أصبح قاعدة”.
ضرائب ورسوم بلا فائدة
وسط سجال عدم دستورية الموازنة وضرورة وجودها مهما كلّف الأمر لضمان انتظام المالية العامة، يبرز التساؤل حول الانعكاسات الايجابية للموازنة على المواطنين وخصوصاً الموظّفين بوصفهم مكلّفين بدفع الضرائب وتلقّي الخدمات العامة مقابلها.
يثبت الواقع أن دافعي الضرائب والرسوم المقرَّة في الموازنات المتعاقبة بعد العام 2019، لم يستفيدوا من انعكاساتها بصورة إيجابية. وكل ما حصل، هو مزيد من امتصاص القدرة الشرائية للرواتب رغم الزيادات التي طرأت عليها، وذلك بفعل التضخّم وغلاء الأسعار المرافق لزيادة الضرائب والرسوم، وهو الحال اليوم مع موازنة العام 2024 التي “لا تدلّ على البصمة الاجتماعية للدولة”، على حد توصيف الخبير الاقتصادي جاسم عجاقة الذي يعطي خلال حديث لـ”المدن”، مثالاً على ما يحصل في فرنسا والدول المشابهة لها. وبنظره “النظام الفرنسي ليبرالي ويمتلك نفحة اجتماعية تظهر من خلال تمويل الدولة للخدمات الاجتماعية عبر الضرائب. لكن في الوقت عينه، يحرصون على التخفيض من عدد موظفي القطاع العام، وبالتالي تقليص نفقاته. لكن في لبنان يدخل عنصر الفساد الذي يمنعنا من معرفة الحجم الحقيقي للقطاع العام وحجم استفادته من الضرائب والرسوم”.
وإذا كان عجاقة يرى بأن “الضرائب والرسوم في الموازنة، تهدف لسدّ الفجوة الناتجة عن نقص الإيرادات، سيّما بعد توقُّف بعض مرافق الدولة بشكل كلّي أو جزئي عن تقديم التمويل، مثل الدوائر العقارية أو النافعة مثلاً”، تذهب مصادر متابعة لملف الموازنة بعيداً في التوصيف، إذ تقول في حديث لـ”المدن”، أن نقص الإيرادات أتى في الأصل “نتيجة الهدر والفساد والتوظيف السياسي في مختلف مرافق الدولة. وموازنة العام 2024 لم تقدّم أي حلٍّ لمسألة نقص الإيرادات، بل إنها رفعت النفقات في مقابل عدم وجود إيرادات كافية، وهذا سبب إضافي للتأكيد على فشل تلك الموازنة”.
التقليل من شأن الموازنة لا يعني بنظر عجاقة عدم إقرارها، حتى وإن لم يسبقها قطع حساب عن السنة الفائتة. لكن هذه الثغرة يجب أن تترافق في حال وجودها، مع تقديمات اجتماعية “تعكس صورة النظام السياسي والاقتصادي الذي يجب أن يستند إلى تعاضد اجتماعي”. ويأسف عجاقة إلى أن التعاضد الاجتماعي بين اللبنانيين غير موجود اليوم بشكل كافٍ للضغط على المسؤولين لإقرار قوانين ذات بعد اجتماعي، كنظام الشيخوخة وغيره”. وانطلاقاً من ذلك، فإن الضرائب والرسوم التي حملتها الموازنة لن تعود بالفائدة على الناس.
الطعن بموازنة العام 2024 غير مؤكَّد، في حين أن انعكاسها بصورة إيجابية على المستويين الاجتماعي والاقتصادي، أمر غير وارد. لكن مع ذلك، يبقى النقاش مفتوحاً حول ضرورة وجود موازنة وإن كانت غير فاعلة، فعلى الأقل يمكنها إثبات حسابات الدولة في وثيقة رسمية.