إتصالات لبنان: تاريخ من الهدر وسوء الخدمة…والفاتورة الأعلى بالمنطقة

“قطاع الإتصالات في لبنان غارق في الفساد والهدر والفاتورة الأعلى عربياً”. هي خلاصة جلسة خصصت للموضوع ضمن ملتقى “خبز ونت” الذي نظمته جمعية “سمكس”، تحت عنوان “تأثير خدمات الإتصالات في لبنان على واقع الحقوق الرقمية”.

الجلسة عرضت الحقبة الذهبية في القطاع قبيل الألفية، والأسباب التي أدت إلى تدهور واقع قطاع الإتصالات في لبنان، حيث يتم التعامل مع القطاع على أنه خدمة رفاهية، وليست أساسية، نظراً للكلفة الإقتصادية الكبيرة لتسعيرة الهواتف والميغابايت المخصصة للإنترنت.

وفي حين بات الإتصال والإنترنت جزءاً لا يتجزأ من حقوق الإنسان أبرزها بالحق بالوصول إلى المعلومات، إلا أن حال القطاع والحقوق الرقمية في لبنان تُسجل إنتهاكات تطاول حقوق المستخدمين، لا سيما الفئات المهمشة.

وتقول محللة السياسات والقوانين في “سمكس”، نجاح عيتاني: “يُعد قطاع الإتصالات ثالث أكثر القطاعات الربحية في البلاد، ودرّ أكثر من 1.2 مليار دولار أميركي إلى خزينة الدولة العام 2016. وقبل إندلاع الأزمة الإقتصادية العام 2019، عانى القطاع من تحديات مستمرة، مثل ضعف جودة الشبكة والخدمات والأسعار المرتفعة، وكان الفاتورة الأعلى في المنطقة العربية مقارنة مع السعودية”.

حديث عيتاني، كان قراءة سريعة لبحث معمق أجرته “سمكس” تحت عنوان “بحثاً عن إشارة واقع قطاع الإتصالات في لبنان 1992/ 2023″ في آذار المنصرم. ففي سابقة في نوعها، نشر ديوان المحاسبة تقريراً موسعاً يُفصل كيف أهدرت وزارات الإتصالات المتعاقبة، 6 مليار دولار أميركي بين العامين 2010 و2020″. وأضاف التقرير: “بالرغم من تحقيق القطاع إيرادات بقيمة 17 مليار دولار، لم يدخل سوى 11 مليار دولار منها إلى خزينة الدولة. ويفيد بأن المبلغ المفقود اي 6 مليارات دولار، أُهدر نتيجة الفساد والمنافع السياسية والتوظيف العشوائي لتحقيق المكاسب السياسية. وللمرة الأولى يمثلُ ستة وزراء للإتصالات للتحقيق بتهمة الفساد في القطاع أمام القضاء اللبناني”.

تاريخ الإتصالات في لبنان
عرضت الباحثة في “سمكس” ماغي عرنوس، تاريخ الإتصالات في لبنان، منذ التأسيس القطاع في العام 1959، وصولاً إلى اليوم. فقد تأسست وزارة البريد والبرق والهاتف، أو ما يعرف بوزارة الإتصالات اليوم، واستغرق الأمر نصف عقد آخر لتنظيم القطاع، بموجب القانون 127، عبر إطلاق العمليات المالية الإدارية للشبكة الأرضية. وتبنى لبنان التقنيات المتوفرة آنذاك، وأنشأ سوقاً جديدة وجذابة للمستثمرين من القطاع الخاص، فكانت شركة “إريكسون” أول من استثمر في لبنان. وأنشأت الحكومة اللبنانية هيئة “أوجيرو” ككيان يشرف على صيانة 250 ألف خط إتصال مباشر، وكانت نسبة إستخدام الهاتف 7% في تلك الفترة.

ومع إندلاع الحرب الأهلية في العام 1975، تعرض قطاع الإتصالات للخطر، نظراً للحرب الطويلة التي ألحقت ضرراً بالبنية التحتية الوطنية لشبكة الإتصالات، وانسحبت الإستثمارات وتوقف التقدم التكنولوجي، وقدرت الخسائر آنذاك بنحو 517 مليون دولار أميركي.

وفي التسعينات، برز لبنان كإحدى الدولة الرائدة التي تعتمد على تكنولوجيا شبكات نظام الإتصالات الرقمية المتنقلة GSM في المنطقة، وفي ظل احتكار الدولة للقطاع، تدفقت اسثتمارات كبيرة بهدف التطوير وتوزيع شبكات الهاتف الخلوي والثابت، وكانت الخدمات غير مثالية مقابل تعرفة عالية.

منذ العام 1994 كان القطاع مملوكاً من شركة “فرانس تليكوم بملكية أسهم “سيليس” لرئيس الحكومة نجيب ميقاتي، التي تولت بدورها استثمار قطاع الإتصالات الخلوية مع شركة “ليبان سيل” بملكية آل جلول، لغاية إلغاء الدولة اللبنانية العقود العام 2001. وفي العام 2004، استلمت شركتي زين “تاتش” و”ألفا” الخاصتين قطاع الإتصالات في لبنان. وفي العام 2020، حسمت هيئة التشريع والإستشارات في وزارة العدل مسألة وجوب استرداد الدولة للقطاع من الشركتين.

وفي تموز من العام 2022، قرر مجلس الوزراء رفع تعرفة الخدمات الهاتفية والإنترنت، إذ أصدرت كل من ألفا وتاتش في السوق بطاقتين جديدتين تم بيعها حسب سعر منصة صيرفة، بطاقة بسعر 4.7 دولارات أميركية وبطاقة بسعر 7 دولارات. أما باقات الإنترنت، فتبدأ من 130 ألف ليرة لـ500 ميغابايت وصولاً إلى 650 ألف لـ30 ميغابايت.

تضرر الفئات المهشمة
الجلسة التي عرضت تأثير قطاع الإتصالات والإنترنت منذ العام 2019، في الفئات الإجتماعية في لبنان بدءاً من الأسر الأكثر فقراً ، إلى الطلاب، وصولاً إلى العاملين في التطبيقات النقل مثل “بولت” و”أوبر”، والعاملات في الخدمة المنزلية. تقول عيتاني: “منذ جائحة كورونا انخفض عدد المشتركين للقطاع، وتخلت الكثير من العائلات عن اشتراك الإنترنت في الهواتف، وبات أفراد الأسر يستعملون هاتفاً واحداً مربوطاً بالإنترنت لتمكن أولادهم من تلقي التعليم أونلاين. فيما خسر بعض الطلاب وظائفهم لتردي الإنترنت وإنقطاع الخدمة في العديد من المناطق من ضمنها العاصمة بيروت. فيما العاملون في خدمة الديلفيري تأثر عملهم، ولم تسمح أجورهم المتدنية لهم بدفع فاتورة الإتصالات”.

وقرار الدولة بتوقيف شبكة 2G، حرمت كل من لا يملكون هواتف ذكية من الإتصالات، ما اضطر كثر إلى تكبد دفع تكاليف إضافية بشراء أجهزة جديدة موصولة بالـ4g.

وعن تجربة واقعية، تحدثت جوليا سوانيرنيا مؤسسة “تحالف العمال المنزليين المهاجرين في لبنان”، عما مرت به العاملات في المنازل بخصوص استخدام الإتصالات والإنترنت في لبنان. فجوليا تقيم في لبنان منذ أكثر من 20 عاماً، وأشارات الى انه في فترة التسعينيات “لم يكن في إستطاعتنا التواصل مع عائلاتنا في الخارج كون الإتصالات كانت محصورة في الخطوط الأرضية، والقليل من المنازل التي كنا نعمل فيها كانت توفر خدمة الإتصال الخارجية لكلفتها المالية الكبيرة”. وتضيف: “في العام 2012، ومع توافر خدمة ما يُعرف ببطاقات كلام وتليكارت أصبح بإمكاننا التواصل مع العالم الخارجي، سواء عبر الخطوط الأرضية أو السنترالات الهاتفية التي وضعت في الطرق اللبنانية. ومنذ توفر واتسآب، باتت عملية التواصل أسهل لكن فاتورة الإتصالات مرتفعة ولا يمكن للعاملات المنزلية دفعها نظراً لأجورهم المتدنية”.

كما تواجه العاملات المنزليات تحدياً، يتعلق بإلزامية تشريج الخطوط الخليوي شهرياً، وسط مطالبتهن بأن يكون تشريج الخطوط لمدة عام، كي لا يكن عرضة لخسارة أرقام هواتفهن.

التوصيات
الجلسة تحدثت عن توصيات عديدة. فعلى الصعيد المالي، يجب تخصيص الإيرادات المالية للقطاع، في أعمال الصيانة وتوسيع الشبكات حتى تصل إلى المناطق الريفية، من أجل توفير خدمات عادلة لكافة الأراضي اللبنانية. وتنويع الإستثمارات وإشراك القطاع الخاص، بهدف تعزيز أداء مقدمي الخدمات وإطلاق مجموعة من حزم الإتصالات والإنترنت بأسعار تنافسية تتناسب مع احتياجات السوق، خصوصاً الفئات المهمشة، لسد الفجوة الرقمية المتواجدة في لبنان.

فيما التوصيات القانونية، كانت بضرورة تفعيل دور الهيئة المنظمة المستقلة للإتصالات من أجل حماية حقوق حقوق المستهلك والإشراف على حسن القطاع وتشغيله وتنظيم وظائف المشغلين من القطاع الخاص. وتنفيذ قوانين تعنى بالإبتكارات الجديدة في العالم الرقمي مثل الذكاء الإصطناعي، وغيرها.

مصدرالمدن - صفاء عياد
المادة السابقة«صندوق النقد»: إصلاحات الاقتصاد اللبناني غير كافية لتعافيه
المقالة القادمةلبنان أمام استحقاق هام في حال لم يكافح تبييض الاموال: هل يصنف باللائحة الرمادية لـFATF؟!