نكمل من حيث انتهينا قبل ثلاثة أيام مع Inkript وقصّتها ذات التشعّبات التي لا تنتهي في «النافعة». وإلى سلسلة جديدة من التساؤلات تتمحور هذه المرّة حول «جريمة» إيقاف نظام التشغيل التي أدّت إلى تعطيل عمل «النافعة» إلى أجل غير مسمّى. فمَن هي الجهة التي اتّخذت القرار وهل لهيئة إدارة السير علمٌ مسبقٌ بذلك؟ وإن كان، كما أصبح شبه مؤكّد، لا وجود لعقْد ينظّم طبيعة عمل الشركة هناك، فهل هذا هو «المسرب» المنشود أصلاً لتشريع المخالفات والتهرّب من المسؤوليات؟
Inkript تنكر والهيئة تؤكّد
تقول Inkript إنها تواصلت عدّة مرّات مع الهيئة من خلال مراجعات ومراسلات لتحديد الكميات وسعر الصرف وآلية التسديد للتمكّن من تنفيذ أوامر مباشرة العمل، مُعربةً عن عدم إمكانيّتها المضي في توريد المستلزمات دون تحديد الكمية من قِبَل الهيئة. «خلال هذه الفترة لم نلجأ يوماً إلى إيقاف العمل، بل عملنا دون توقّف واستوردنا المستلزمات بالحد الأدنى من دون أي مدخول، كما قمنا بتغطية مصاريف تشغيلية لا علاقة لنا بها، من أجل تأمين استمرارية المشروع»، بحسب إدارة الشركة. وأضافت أن الهيئة على عِلم بعدم إمكانية استيراد المستلزمات دون تحديد الكمية، ما يتطلّب منها وضع إطارٍ لآلية التسديد وللقيمة الموازية بالعملة الأجنبية يرعى الوضع الراهن في ظل الأزمة المالية.
لكن، بلا غرابة هنا أيضاً، للهيئة رأي آخر. فقد أكّدت مصادر مقرّبة منها أنها كانت قد ذكّرت الشركة بوجوب استكمال مباشرة العمل بالمشروع للأعوام السابقة وتسليمها الكميات الصافية المبيَّنة في الجداول المرفقة في مراسلاتها العديدة، لا سيّما تلك المذكورة في الكتاب رقم 2022/15697 بتاريخ 2022/09/14. وكلّ ذلك بهدف توفير مخزون كافٍ يؤمّن استمرارية المرفق العام. «تبلغ قيمة العقد الإجمالية الممتد على سبع سنوات 174,876,900 دولار وذلك بموجب التزام سنوي قيمته 37,648,498,000 ليرة. لقد تقاضت الشركة حتى اليوم مبلغاً يُقدَّر بحوالى 123 مليون دولار من أصل المبلغ الكلّي». وأشار المصدر عينه إلى أن الشركة امتنعت عن تطبيق المرسوم رقم 13 الصادر عن مجلس الوزراء لأن تطبيقه سيفضح أسعار التشغيل وتكلفة البرنامج وثمن اللوحات والدفاتر وغيرها. وفي حال هي أصرّت على موقفها، سيتمّ فسخ العقد والاستعانة بمختصّين متطوّعين لاستلام البرنامج وإعادة تشغيل المرفق العام.
بين الهيمنة والتحكّم
لكن نتمهل هنا قليلاً. إذ يبدو أن المتداوَل لا يشبه ما جرى «تحت الطاولة». مصدر مطّلع آخر شدّد لـ»نداء الوطن» على أن الشعرة التي قصمت ظهر البعير تمثّلت بالاتصال الذي ورد قُبيل منتصف ليل يوم الاثنين العاشر من تموز من السيّد هشام عيتاني، يطلب فيه من مدير الشركة التوقّف الفوري عن العمل. وقد جاء ذلك بعد أن قامت الهيئة، قبل أيام، بإرسال فريق من المختصّين للكشف على عمل الشركة والبدء بتسلّم مهامها.
هنا لا بدّ من التذكير بأن عيتاني هو أحد المالكين في شركة Inkript، وهو نجل النائب السابق محمد الأمين عيتاني الذي سبق أن وصل إلى البرلمان مع الوزير السابق نهاد المشنوق على متن لائحة «مستقبلية». كما نذكّر أيضاً بأن قرار ديوان المحاسبة رقم 6/ر.ق، بتاريخ 2022/07/19، اعتبر أن المناقصة التي أتت بشركة Inkript مخالفة للقانون وأساسها باطل، وما بُني على باطل فهو باطل. كما قضى القرار بمعاقبة مجلس الإدارة الذي وافق على المناقصة حينها. ورغم ذلك، واصلت الشركة عملها غير آبهة بمسألة عدم قانونية تجديد العقد.
حسناً. لكن، مجدّداً، ما مصير الداتا والمعدّات، ومن سيستلمها على وقع هذه الفوضى؟ تخبرنا الشركة بأن جميع مكوّنات المشروع ستعود للهيئة بعد انتهاء العقد وفق بنوده، أي بعد استكمال جميع أوامر مباشرة العمل وفقاً لقيمة الأخير. علماً أن مدة العقد تنتهي بعد سبع سنوات من تاريخ انتهاء فترة التأهيل (أي في أيلول المقبل) على أن يتمّ استكمال تنفيذ العقد حتى إنجاز كامل أوامر العمل.
من ناحيتها، لفتت مصادر الهيئة إلى أن دفتر الشروط فرَض على المتعهد أن يكون مسؤولاً عن تنسيق عملية التسليم وتركيب جميع مكوّنات النظام، وبالتالي تعود الملكية الفورية للمعدّات المستخدَمة إلى الهيئة. لكن، وعلى سبيل المثال لا الحصر ولتاريخه، لم يتمّ تسليم الـSource Code والـUser Guide الخاصَين ببرامج المكننة المستخدَمة في الهيئة. حتى أن كلمة السر الخاصة بالخوادم التي تُحفظ عليها كافة المعلومات هي بحوزة الشركة ولم يجرِ تسليم أي منها إلى أي موظف من ملاك الهيئة، أو حتى إلى الضبّاط المفصولين لديها. ليس هذا وحسب. فالأبواب الخاصة بالطابق الأرضي في المبنى رقم 1 في الدكوانة والمخصّص للشركة حيث تُحفظ المعلومات وتتمّ طباعة رُخص السوق والسَير واللوحات، جميعها مشفّرة ولا تُفتح إلا بموجب بصمات موظفيها. وهذا ما يمنع إدارة الهيئة من الدخول إلى هذه المنشآت، بحسب المصادر ذاتها.
التذاكي على المحاسبة
نتابع ونستفسر عن المزيد. فهل من بنود (جزائية) تسمح للشركة بإقفال جهاز المكننة في حال لم يتمّ تسديد مستحقاتها، وبهذه الطريقة المفاجئة؟ بالنسبة للشركة، لا ينطبق قانون الموجبات والعقود في هذه الحالة، إذ إننا بإزاء قانون عام يرعى تحديداً العلاقات بين الأشخاص (الطبيعيين والمعنويين) في القطاع الخاص. أما العقود العامة، فترعاها القوانين الإدارية كما المبادئ العامة التي تختصّ بتلك العقود. ولا يفوت الشركة الإشارة إلى وجود خلل في التوازن الاقتصادي للعقد الذي يؤدي إلى تطبيق نظرية الظروف الطارئة (Theorie de l’imprévision) والتي ترعى عملها وكافة الخطوات التي تتّخذها ضمن إطار القوانين المرعية الاجراء.
من جهّتها، تعلّل الهيئة أن المادة 32 من دفتر الشروط تنصّ على أنه لا يحقّ للملتزم التنازل عن التزاماته المبرمة كلياً أو جزئياً، وبأي شكل كان، إلّا بموافقة خطية مسبقة من الإدارة. كما أن الفقرة الثانية من المادة 13 تنصّ بدورها على أن تتمّ مراجعة الأسعار بنفس نسبة تغيير الحدّ الأدنى للأجور في القطاع العام وفقاً لتاريخ صدوره رسمياً. أما الفقرة الرابعة من المادة 16 فتُجبِر على دفع عوائد الضمان النهائي للإدارة كتعويض، غير حصري، عن أي خسارة تنتج عن إخفاق الملتزم في الانتهاء من التزاماته بحسب العقد، أو اقتطاع مبالغ مستحقّة للإدارة. وقد ورد في النبذة الرابعة من المادة 27 إمكانية الإدارة فسخ العقد أو جزء منه مع الملتزم من خلال مذكّرة خطية، في حال توقَّف الملتزم عن العمل لمدة 120 يوماً متتالياً، وذلك إن كان التوقّف غير ملحوظ ببرنامج الأعمال الساري المفعول ولم يصدر بذلك تعليمات من الإدارة.
الإثباتات، باعتراف المسؤولين في هيئة إدارة السير، تؤكّد أنّ الموظّفين التابعين لـ Inkript يعملون داخل أقسام الهيئة دون أي ارتباط رسمي قانوني بينهم وبين رؤساء الوحدات، إذ لا نص قانونياً يربط بينهم، وبالتالي تبقى هويّاتهم وجنسياتهم وأسماؤهم كما تحرّكاتهم مجهولة بالنسبة للهيئة. والمُخجل أكثر في هذا السياق هو عدم تحرّك اللجان النيابية – كلجنة الاتصالات ولجنة المال والموازنة ولجنة الأشغال ولجنة الدفاع والداخلية – التي غابت عن توجيه السؤال إلى وزير الداخلية حول كافة الارتكابات الحاصلة. فهل نحن أمام تورّط رسمي كبير في هذه «الجريمة»، خصوصاً وأن في سكوت القضاء والنيابات العامة عن التحقيق في قضية مدى قانونية المناقصة وداتا المعلومات وإقفال جهاز الكومبيوتر، من الاستغراب الشيء الكثير؟
المسؤولية «ضايعة»
على أي حال، رئيس نقابة مدارس السوق في لبنان، حسين غندور، تقدّم في 2022/12/14 بإخبار لدى النيابة العامة المالية باعتبار أن الشركة محتلّة لمرفق عام، مطالباً بإخراجها من مراكز هيئة إدارة السير وتحديد المسؤوليات والمخالفين ومعاقبتهم وفقاً للقوانين المرعية الإجراء. وما لبث أن ألحقه بمذكّرة بتاريخ 2023/07/20. جاء ذلك بعد أن قامت الشركة المشغّلة بإقفال البرنامج الخدماتي الذي تُقدّم عبره الخدمات وتستوفي الضرائب، باعتباره جرماً مشهوداً، خصوصاً وأن قرار ديوان المحاسبة وقرار مجلس شورى الدولة يؤكّدان أن لا وجود للعقد، وإن كان ثمة عقد فيجب أن يكون وفق أصول العقود.
سيلٌ من الأسئلة وشحّ في الإجابات. هذه هي المحصلة. فهل من يتحرّك بعد أن تضاربت الردود وغاب العقد والأصول وأُقفِل جهاز البرنامج المستخدَم؟ شللٌ فوق شللٍ ونبقى ننتظر…