بدأ التركيز على هذا الملفّ أخيراً، بعد أن أثارت وزارتا الاقتصاد والصناعة إحجام مُصدّرين عن إعادة أموال التجارة الخارجية إلى الداخل، لكن من دون ذكر تقديرات دقيقة للدولارات التي تبقى في الخارج. في بداية كانون الثاني الماضي، بدأت الدائرة القانونية في مصرف لبنان بحث اقتراح لدفع المُصدّرين إلى إعادة ضخّ الأموال «الفريش» في النظام المصرفي اللبناني. ومتابعتهم عبر مراقبة بيانات الجمارك، والحوالات التي تقوم بها المصارف، والاعتمادات المستندية لدى مصارف المراسلة. وتضمّن الاقتراح إعادة مبالغ عمليات البيع خلال مهلة أقصاها ثلاثة أشهر، على أن يكون للمُصدّرين حقّ الحصول على كامل قيمة أموالهم متى طلبوا ذلك، و… ضاع المشروع في دهاليز مصرف لبنان، بضغط من المُصدّرين المُعارضين له.
من الطبيعي أن يُعارضوا القرار، ويدّعوا أنّ فرضه «يقضي» على «الاقتصاد الحرّ»، في سياق الدفاع عن «مكتسبات» غير مُحقة، كما عن استغلال التصدير لـ«تهريب» الدولارات إلى الخارج. فالمصدّر الذي استفاد من الدولارات الموجودة في لبنان لاستيراد مواد أولية، يمكنه ترك أرباحه في الخارج، بما يحرم الاقتصاد المحلي من دولارات إضافية يحتاجها. إلا أن تجارب الدول تؤكّد أن «حرية تدفق الأموال» و«الاقتصاد غير الموجّه» لا يحولان دون فرض قوانين تُجبر المصدرين ـ أو تحفّزهم – على إعادة كامل أرباحهم، أو جزء منها، إلى داخل البلاد. يُمكن الجزم بأنّ غالبية الدول تفرض قيوداً وشروطاً على الأفراد والشركات العاملة في الخارج، أكان عبر فرض ضريبة على أعمالها، أو منحها تخفيضات ضريبية، أو من خلال إجبارها على إعادة ضخّ أرباحها الخارجية في الاقتصاد المحلّي. المفارقة أن هذه الإجراءات تُطبّق تحديداً حين تمرّ البلدان بأزمات مالية، فتكون أموال التصدير خطّ الدفاع عن العملة الوطنية. من الولايات المتحدة الأميركية إلى فرنسا والأرجنتين وسوريا وإيران ونيجيريا وإثيوبيا وتونس والسعودية وتركيا وجنوب أفريقيا، قد تختلف الإجراءات أو تتفاوت حدّتها، ولكن يبقى المنطق واحداً: ممنوع الاستفادة من موارد البلد – البشرية والمادية – لتجميع ثروات شخصية من دون إعادة إفادة الاقتصاد وتحريك عجلة الإنتاج.
في ما يأتي، عرض لبعض تجارب دول في مجال إجبار المصدّرين – أو تحفيزهم – على إعادة أموالهم إلى داخل البلاد:
الولايات المتحدة الأميركية:
إعادة أرباح الشركات الأميركية المُكتسبة في الخارج إلى داخل الولايات المتحدة الأميركية، هي «معركة» حصلت بين رؤساء الشركات والإدارة الأميركية طيلة سنوات، قبل أن تفوز بها الأخيرة جزئياً خلال عهد الرئيس السابق دونالد ترامب.
انطلقت محاولات إعادة هذه الأرباح لتحريك الاقتصاد البطيء النمو. أقرّ الكونغرس عام 2017 قانون التخفيضات الضريبية من 35 في المئة إلى حدود الـ21 في المئة. وفُرضت ضريبة لمرّة واحدة فقط بنسبة 15.5 في المئة على الأموال الخارجية للشركات و8 في المئة على الأصول غير النقدية، يُمكن تقسيطها على 8 سنوات. اعتُبر التشريع الجديد «حافزاً» لإعادة الأموال إلى داخل الولايات المتحدة.
تركيا:
إعادة أرباح التصدير إلى تركيا، كانت جزءاً من إجراءات القيود على رأس المال، والتي تهدف إلى الدفاع عن الليرة التركية أمام موجات الانهيار في قيمتها. سمح القانون، الذي فُرض لفترة مؤقتة، للأفراد والشركات بإعادة كلّ الأصول التي يحتفظون بها في الخارج من نقود وذهب وممتلكات… إلى تركيا من دون خضوعهم للتحقيق القضائي أو فرض غرامات أو ضرائب على هذه الأصول.
السعودية:
في إطار رؤية 2030 السعودية، أُطلق برنامج تحفيز الصادرات مع هيئة تنمية الصادرات السعودية لتشجيع الشركات السعودية على تصدير السلع غير النفطية. الأساس هو في زيادة هذه الصادرات من 16 في المئة من إجمالي الناتج المحلّي غير النفطي إلى حدود الـ50 في المئة. وتقرّر أن يُقدّم برنامج تحفيز الصادرات حوافز للشركات، تُغطّي جزءاً من التكاليف التي تتكبّدها.
سُمح لكلّ شركة الحصول على أكثر من حافز كلّ سنة لدعم صادراتها، بحدّ أقصى يبلغ 380,000 ريال سعودي (ما يُقارب الـ101.3 ألف دولار أميركي). بالتوازي، وُضعت خطّة عمل «بنك التصدير والاستيراد» لتقديم قروض وتمويل مراحل التصدير، ومن ضمنها تمويل المواد الأولية، تمويل احتياجات رأس المال، التعاون مع المؤسسات المالية السعودية والدولية لتقديم ضمانات تحمي المُصدّرين، إصدار سندات تأمين الصادرات… في المقابل، يُطلب من الأفراد والشركات المُصدّرين إعادة أرباح المبيع إلى داخل السعودية، بما يوازي النسبة من المحفزات التي حصلوا عليها.