بعد أكثر من عامين ونصف العام على اندلاع ثورة 17 تشرين، وتزامنها مع تفجر الأزمة المالية الاقتصادية في لبنان، ودخول القطاع المصرفي كلاعب أساسي في مشهد الانهيار الواقع.. وبعد مرور أعوام على احتجاز المصارف لأموال المودعين، واحتكارها قرار الفتح والإغلاق وتحويل ملايين الدولارات إلى الخارج.. حان دور الحساب. فقد أحال مصرف لبنان أربعة مصارف، بينها مصارف كبرى، إلى الهيئة المصرفية العليا للتحقيق في مخالفات ارتكبتها ولا تزال.
أحال حاكم مصرف لبنان رياض سلامة عدة مصارف إلى التحقيق، ليس قناعة منه أو نزولاً عند حاجة القطاع المصرفي للإصلاح، وتنظيفه من المخالفين وتسوية أوضاع مصارفه، إنما أحالها مُكرهاً لأسباب لا يمكن وصفها سوى بـ”الانتفاضة” من داخل المجلس المركزي لمصرف لبنان. فما صحة الحديث عن إحالة مصارف إلى الهيئة المصرفية العليا؟ من هي تلك المصارف؟ وما هي حدود صلاحيات الهيئة المصرفية العليا؟
فرنسبنك وعودة
على الرغم من نفي عضو جمعية المصارف، تنال الصباح، في حديث إلى “المدن”، صحة الحديث عن إحالة مصارف إلى الهيئة المصرفية العليا، أكد مصدر مصرفي رفيع إحالة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة مجموعة مصارف، بينها مصارف من الفئة “أ” (فرنسبنك وعودة) إلى الهيئة المصرفية العليا، بعد إحراج من قبل بعض أعضاء المجلس المركزي بتقارير ومعطيات كثيرة تصب في إطار مخالفات قامت بها المصارف، بدءاً من عمليات تحاويل سابقة ومخالفة تطبيق تعاميم، واستغلالها منصة صيرفة لتحقيق مكاسب خاصة.
ويؤكد المصدر المصرفي في حديث إلى “المدن”، أن مسألة فتح ملفات المصارف التي أحيلت إلى الهيئة المصرفية العليا للتحقيق ليست مستجدة. فهناك رصد لمخالفاتها منذ مدة. وقد أحالها حاكم مصرف لبنان إلى الهيئة المصرفية العليا “مُرغماً” بعد تزويده بتقارير عن مخالفاتها.
ويلفت المصدر إلى الظروف التي دفعت سلامة إلى الرضوخ لمطلب المجلس المركزي بإحالة المصارف إلى الهيئة المصرفية العليا، ويقول “إن تسليط الضوء من قبل الهيئات الرقابية الدولية على لبنان مالياً ومصرفياً، وضرورة نيل رضاها عن العمل المصرفي في لبنان، يدفع بمصرف لبنان ممثلاً بحاكمه سلامة إلى العمل على تحديد مكامن الخلل وحلّها، لأنه على يقين بأن أموالاً طائلة تم ضخها مجهولة المصير، ولا أحد يعلم كيف أنفقت”.
مصرف لبنان مُرغم
وإن أردنا توصيف الوضع بحُسن نية، فيمكن القول إن مصرف لبنان يعمل على “تنظيف القطاع المصرفي والتقليل من اعوجاجه”، يقول المصدر. إنما في واقع الأمر هو مكره على إحالة مصارف إلى الهيئة المصرفية العليا، وإخضاع المصارف التي تم كشف سلوكيات ملتوية لديها للتحقيقات، قبل محاسبتها ومعاقبتها.
إحالة المصارف إلى الهيئة المصرفية العليا لم تتم منذ بداية الأزمة، على الرغم من فضح آلاف المخالفات التي ارتكبتها المصارف وتُرجمت بمئات الدعاوى القضائية بحقها، غير أن مصرف لبنان لم يتحرّك حينها ولم يُحل أي من المصارف إلى التحقيق، “ولو كان سلامة مهتماً بتنظيف القطاع المصرفي فعلاً لباشر التحرك تجاهه منذ بداية الأزمة، وتحديداً حين أغلقت المصارف أبوابها لمدة 15 يوماً عقب 17 تشرين من العام 2019، وأجرت حينها الكثير من التحاويل إلى الخارج”، يقول المصدر. لكن حين فُتح باب المحاسبة اضطر مصرف لبنان إلى المباشرة بعملية تنظيف القطاع.
مخالفات المصارف
تتركز التقارير التي أحيلت المصارف على أساسها إلى الهيئة المصرفية العليا على سلسلة من التجاوزات والمخالفات، بدءاً من التخلف عن تطبيق تعاميم مصرف لبنان، وأخطاء مسلكية كثيرة، مروراً بتنفيذ تحاويل خلسة، ووصولاً إلى تعامل المصارف مع دولارات منصة صيرفة بشكل مخالف وغير أخلاقي. كما أن عدداً من المصارف كان فاعلاً بالسوق السوداء للعملة على خط منصة صيرفة.
ويلفت المصدر إلى أن من المعيب أن يبقى المجلس المركزي لمصرف لبنان ملتزماً الصمت أمام فداحة المخالفات المصرفية، لاسيما في ظل أزمة عميقة يصعب الرجوع منها. ملمحاً إلى أن ما يشبه الانتفاضة بدأت تتجلى معالمها في المجلس المركزي لمصرف لبنان. وثمة من ينتفض على سلامة والمصارف ومن خلفهم السياسيين.
ماهية الهيئة المصرفية العليا
أما عن ماهية الهيئة المصرفية العليا، فتشرح الخبيرة القانونية والرئيسة التنفيذية لمؤسسة juriscale سابين الكيك، في حديث إلى “المدن”، أن الهيئة المصرفية العليا هي هيئة إدارية أنشأت بموجب القانون 28/76، ذات صفة إدارية لكنها ذات طابع قضائي، لأنها تتمتع بصلاحية اتخاذ تدابير بحق المصارف، ولديها صفة مزدوجة. وقد حلت محل لجنة العقوبات الواردة في قانون النقد والتسليف.
تتنوع مهامها بين الطابع الإداري والتنظيمي. ويمكنها اتخاذ تدابير بحق المصارف غير الملتزمة بالأصول والشروط المفروضة على عمل المصارف في لبنان. ويجوز -حسب الكيك- للهيئة المصرفية العليا أن تتخذ بموجب القانون كل الإجراءات التأديبية بحق المصارف، بدءاً بالإنذار والتنبيه مروراً بتقليص مستوى العمليات أو البرامج التسليفية والتأمينية وغيرها، وصولاً إلى شطب المصرف عن لائحة المصارف. باختصار، لدى الهيئة صلاحيات واسعة جداً، وبموجب القانون نفسه 28/67 يمكن للهيئة أن تتخذ قراراً بوضع اليد على مصرف، إذا تبين لها أنه لم يعد بإمكانه متابعة أعماله. ويبلغ القرار إلى مجلس الوزراء خلال 48 ساعة، على أن يتخذ الأخير القرار النهائي. علماً ان قرارات الهيئة في هذا الاطار لا تقبل أي طريقة من الطعن لا الإدارية ولا القضائية ولا أي طعن آخر. وهي نافذة لا محال.
للهيئة المصرفية العليا الصلاحية بشطب المصرف، إذا ما تبين أنه لم يعد بوضع يمكنه من متابعة أعماله، إذا لم يمارس نشاطه خلال سنة منذ تسجيله على اللائحة، إذا انقطع عن ممارسة نشاطه لأكثر من سنة، إذا لم يعد تكوين رأسماله في المهل المحددة. وتحت هذا البند تحديداً يمكن للهيئة محاسبة العديد من المصارف وصولاً إلى شطبها.
وإذا كنا نتحدث عن عدم التزام المصارف بإعادة تكوين رساميلها التزاماً بالتعميم الذي أصدره مصرف لبنان في آب 2020، فذلك يعود إلى صلاحية الهيئة المصرفية العليا، وبالتالي وبالنظر إلى أن الهيئة لديها هوامش صلاحيات أكبر من سلامة منفرداً، فذلك يعني أنه بالإمكان اتخاذ قرار بشطب أحد المصارف المخالفة عن لائحة المصارف.