إحذروا تضليل جمعيّة المصارف: هذه حقيقة الهندسات الماليّة

في التقرير الشهري الأخير لجمعيّة المصارف، خصّص أمين عام الجمعيّة فادي خلف افتتاحيّة التقرير يوم أمس الأربعاء للحديث عن مسألة الهندسات الماليّة. وعنوان الافتتاحيّة يلخّص المضمون: مداخيل المصارف من الهندسات الماليّة دفتريّة وبالليرة. ما أراد خلف قوله باختصار شديد هو أنّ ما جنته المصارف من الهندسات الماليّة من أرباح كان بالليرة اللبنانيّة، ولم يتم توزيعه على المساهمين، بل جرت إضافته إلى رساميل المصارف. وهذه الرساميل، حصيلة الهندسات، فقدت اليوم 98% من قيمتها. ومن دون أن يقولها خلف بشكل صريح، كانت الخلاصة المبطّنة في الافتتاحيّة توحي بأنّ المصارف وقعت ضحيّة عمليّة استدراج لم تأتِ بالنفع لها أو لمساهميها.

راهنيّة كلام خلف: الهروب من المسؤوليّة

قبل تفنيد التضليل البيّن في كلام خلف، وهذا هدف مقالنا، من المهم الإشارة أولًا إلى راهنيّة كلامه، أي إلى أهميّته في هذه المرحلة بالتحديد، وإلى اتصاله بالسجالات والتجاذبات الحاليّة.

فكلام خلف، يأتي بالتوازي مع كل النزاع الحاصل حول مشروع إعادة هيكلة القطاع المصرفي، الذي ترفضه المصارف من حيث المبدأ. وهو يأتي متوازيًا مع الحديث عن ضرورة تضمين عمليّة إعادة الهيكلة آليّات معيّنة، لاستعادة الأرباح الناشئة عن الهندسات الماليّة، أو تحميل هذه الأرباح نصيبًا من الخسائر المتراكمة داخل القطاع المصرفي. بهذه الصورة، يطعن كلام خلف في جزء أساسي من الطروحات التي يمكن أن تأتي من ضمن مشروع إعادة الهيكلة، ومسودّة مشروع القانون المطروحة حاليًّا في مجلس الوزراء تتناول هذه المسألة.

كلام خلف، لا يمكن فصله أيضًا عن ما تم تداوله من خلاصات وصلت إليها ورقة الخبير المصرفي توفيق كسبار، التي تم نشرها خلال الأسبوع الماضي. فخلاصات الورقة، المستندة إلى تقرير التدقيق الجنائي، بيّنت أن كلفة الهندسات الماليّة التراكميّة كانت قد تخطّت لغاية العام 2020 حدود 60 مليار دولار، وهو ما يوازي 83% من الخسائر المتراكمة حاليًا في القطاع. كما بيّنت أنّ 18.8 مليار دولار من التدفّقات الخارجة من المصرف المركزي بالعملة الصعبة، بين عامي 2015 و2019، ذهبت تحديدًا لتمويل الفوائد المرتفعة خلال مرحلة الهندسات (وهذا ما يوازي نحو ثلث خسائر المركزي وحده).

وتفنيد استعمالات السيولة بالدولار الأميركي، تُظهر أيضًا وجود 25 مليار دولار من الأموال المجهولة المصير، التي يُرجّح اتصالها بتحويلات أصحاب المصارف والنافذين إلى الخارج، خلال الفترة نفسها. وهو ما يطرح مجددًا السؤال عن اتصال الهندسات الماليّة بالخسائر المتراكمة في المصرف المركزي.

بهذا المعنى، لا يأتي كلام خلف من أو إلى العدم، وهو لا يصب في إطار “نبش القبور” وتحليل الماضي. بل هو يتصل بشكل وثيق بمعركة توزيع الخسائر المحتدمة. وهو يأتي دفاعًا عن المصارف، في وجه من يحاول تحميل المستفيدين من الهندسات نصيبهم من الخسائر، وذلك وفقًا لمساهمة هذه الهندسات في تراكم الخسائر نفسها.

على أي حل، من المهم الإشارة أيضًا إلى أنّ هذه الافتتاحيّة تمثّل انعطافة كبيرة في موقف جمعيّة المصارف، التي انتقلت من التباهي بمشاركتها في الهندسات الماليّة قبل العام 2019، إلى التبرّؤ من أرباح الهندسات والإيحاء بأن هذه العمليّات كانت فخًا نُصب من قبل مصرف لبنان.

ويوم كانت “المدن” أحد المنابر القليلة –تُعد على أصابع اليد الواحدة- التي حذّرت من نتائج هذه الهندسات قبل سنوات طويلة من الانهيار، كانت بعض أدوات اللوبي المصرفي تطالب بتحريك دعاوى الحق العام ضد من يجرؤ على التشكيك بهذه السياسة النقديّة، بتهمة تهديد “الاستقرار النقدي”.

التضليل في كلام خلف

ثمّة قدر لا يمكن تجاهله من التضليل في كلام خلف، بل ومن الاستخفاف بعقل القارئ المتابع. ويمكن القول إنّ جرأة خلف وجمعيّة المصارف على إطلاق هذا النوع من الادعاءات، ينبع من قدرة هؤلاء على استعمال مصطلحات ومفاهيم محاسبيّة هي أشبه بالطلاسم لعموم اللبنانيين من غير المختصّين. فما هو الفرق بين المؤونات والرساميل والأرباح؟ وماذا يعني أن تُخصص أرباح الهندسات لزيادة الرساميل؟ وهل هذا يعني فعلًا أن أصحاب المصارف لم يستفيدوا من الهندسات؟ هل كانت المصارف تقوم بعمل خيري حين جاءت بأموال المودعين من الخارج، وقدّمتها على طبق من فضّة لرياض سلامة بين 2015 و2019؟

تفنيد كلام خلف، يمكن أن نفصّله على النحو التالي:

أولًا، الأموال التي يتحدّث عنها خلف، والتي جرت إضافتها بالليرة إلى رساميل المصارف، ولم توزّع على المساهمين، تقتصر الربح الصافي لكل مصرف. أي الفارق بين الفوائد المدفوعة للمودع (مصدر الأموال)، وتلك التي تم تحصيلها من مصرف لبنان (حيث جرى إيداع الأموال). ومن المعلوم أن الهندسات الماليّة قامت على اجتذاب أموال المصارف بالدولار إلى مصرف لبنان، مقابل توزيع فوائد كبيرة بالليرة اللبنانيّة.

بهذا المعنى، كلام خلف –عن ربح المصارف الصافي- لا يشمل الجزء الأكبر من الأرباح التي وزّعها مصرف لبنان. أي الفوائد الفاحشة التي تم توزيعها على كبار المودعين المحظيين، الذين اشتركوا في عمليّات وبرامج خاصّة مرتبطة بالهندسات عبر المصارف. بصورة أوضح، ما يتحدّث عنه خلف من أموال مقيّدة هو فقط الفارق بين الفوائد المدفوعة والمقبوضة من قبل المصرف، في حين أنّ الغالبيّة الساحقة من الأرباح والفوائد –المدفوعة للمودعين المحظيين- غير مشمولة بهذه القيود.

وهذه الفوائد، لم تبقَ أسيرة الرساميل، بل كانت أموال حرّة بالليرة، وكان يمكن تحويلها إلى الدولار ونقلها إلى الخارج. وهذا أسوأ ما في الأمر: أن ضخّ الأرباح بالليرة كان ينعكس بطلب متزايد على دولارات مصرف لبنان، أي أموال المودعين، ومنهم المودعين غير المحظيين، الذين لم يشتركوا في عمليّات خاصّة من هذا النوع. من هنا، كانت التسمية: عمليّات البونزي، أو عمليّات الاحتيال المنظم.

غير أن أهم ما في الأمر، هو البحث في فئة المودعين المحظيين، الذين اشتركوا في هذه العمليّات، وجنوا أرباحاً هائلة على حساب المودعين العاديين.

هؤلاء، ليسوا مجرّد أطراف ثالثة اختارتهم إدارات المصارف بالقرعة، لينعموا بالأرباح السخيّة. هؤلاء نافذون متصلون بعلاقات نفعيّة خاصّة مع أصحاب المصارف. وهم سياسيون يملكون حظوتهم داخل القطاع. وهؤلاء هم أعضاء مجلس الإدارة والمساهمون، أي أصحاب الودائع “ذات الصلة” (وكان يفترض شطب هذه الودائع، لا تقديسها مع أرباحها بعد الانهيار). ولعلّ أسوأ ما في شعار “قدسية الودائع”، الذي سوقته جمعيّة المصارف، هو مساواة هذه الودائع في مشروعيّتها مع الودائع النظيفة، بدل تنظيف الميزانيّات من أثر الهندسات السامّة.

ماذا استفاد المساهمون؟

وعلى أي حال، وإلى جانب المودعين المحظيين الذين اشتركوا بالهندسات عبر برامج خاصّة، كان هناك نمط آخر من العمليّات. إذ قامت المصارف بين 2015 و2019 بتحويل أموالها –أي أموال المودعين “العاديين” الذين يتقاضون فوائد طبيعيّة- من الخارج إلى مصرف لبنان، مقابل أرباح ضخمة وغير منطقيّة صبّت في حسابات المصارف.

وهنا، كانت المصارف تستفيد من الفارق بين الفوائد المنخفضة التي تدفعها للمودع “العادي”، والأرباح الفاحشة التي تتقاضاها بالليرة من مصرف لبنان، وهذه الأرباح التي يجنيها المصرف كانت تضاف إلى الرساميل (كما أشار خلف). لكن هل يعني ذلك أن المساهم لم يجنِ شيئًا من هذه الأموال؟

في تلك المرحلة، بدأت الهندسات كُرمى لأكبر مصرف في لبنان من حيث حجم الموجودات، أي بنك عودة، بعدما ضربت ميزانيّة المصرف كتلة ضخمة من الخسائر جرّاء استثماراته في تركيا، وبفعل هبوط قيمة الليرة التركيّة. بهذا الشكل، وبدل أن يضخ المساهمون كتلة من السيولة للتعويض عن هذه الخسائر، والاحتفاظ بملكيّة مصرفهم، جاءت الهندسات لرسملة المصرف، أي لتعوّمه من جديد على حساب الأموال العامّة (أموال مصرف لبنان). مع الإشارة إلى أنّ المصرف كان قد تورّط –خلال الفترة نفسها- في عمليّات غامضة مع الحاكم السابق رياض سلامة في أوروبا (صدفة؟).

حسب أرقام لجنة الرقابة على المصارف، كان هذا البنك قد حقق عام 2016 أرباحاً صافية بقيمة 1.6 مليار دولار، وهو أضعاف ما كان المصرف يحققه من أرباح خلال السنوات العاديّة. وبهذا الشكل، وبدل أن يضطرّ المساهمون لضخ أموالهم وإنقاذ المصرف، كانت الأموال العامّة تؤدّي هذه المهمّة، وكان المصرف يوزّع على مساهميه أرباح النشاط التشغيلي العادي!

على النحو نفسه، أدّت الهندسات الماليّة الدور ذاته بالنسبة لبنك ميد، الذي ضربته خلال الفترة نفسها مجموعة من الأزمات المرتبطة بمشاكل الرئيس سعد الحريري وتعثّر شركاته. أمّا بعض المصارف الصغيرة الأخرى، فجرت رسملتها بالكامل من أرباح الهندسات، أي أنّ الغالبيّة الساحقة من قيمة أموالها الخاصّة تكوّنت من أموال مصرف لبنان العامّة.

وبعيدًا عن المصارف المحظيّة، كانت جميع المصارف من دون استثناء تستفيد من مسألة أخرى. إذ أنّ المعايير المحاسبيّة العالميّة فرضت على المصارف تكوين مؤونات احتياطيّة معيّنة، أي نسبة معيّنة من الأموال الخاصّة المخصّصة للتعامل مع احتمالات أو مخاطر تعثّر بعض المدينين.

وبدل أن يضطر المساهمون إلى ضخ هذه المؤونات من أموالهم، أو إلى التنازل عن أرباحهم التشغيليّة لتكوين المؤونات، كانت أرباح الهندسات كفيلة بتكوين هذه الأموال الخاصّة. أمّا الأرباح التشغيليّة، فظلّت تتدفّق إلى جيوب المساهمين كالعادة، من دون أن تتأثر بتكوّن المؤونات.

أخيرًا، وبخلاف ما قاله خلف، لم تلتزم المصارف بشرط تخصيص أرباح الهندسات لزيادة الرساميل أو تغذية الأموال الخاصّة. بل إن الكثير من المصارف خلطت هذه الأرباح بعمليّاتها التشغيليّة، وخلطتها بأرباحها السنويّة العاديّة، وهو ما ضخّم الأرباح الموزّعة على المساهمين بعد العام 2016، كنتيجة لهذه الهندسات. ويكفي أن يمر المرء على ميزانيّات المصارف السنويّة عام 2016، ليكتشف هذه الحقيقة المناقضة لكل ادعاء جمعيّة المصارف الحاليّة.

في جميع الحالات، يمكن القول إنّ ما قاله فادي خلف في افتتاحيّته لا يفترض أن يغيّر شيئاً في المشهد الراهن. فكون المصارف مستفيدة أو غير مستفيدة، لا يفترض أن يؤثّر على مسؤوليّتها تجاه أموال المودعين، التي نقلتها من الخارج إلى مصرف لبنان. وهذا الأمر لا يؤثّر على حقيقة العلاقة ما بين تراكم الخسائر في مصرف لبنان، والهندسات الماليّة التي اشتركت بها المصارف. وكون المصارف مستفيدة أو غير مستفيدة، لا يفترض أن يؤثّر كذلك على أحقيّة مطلب استعادة الأرباح غير المشروعة، الناتجة عن هذه العمليّات، بمعزل عن هويّة المستفيدين. باختصار، كل ذلك يبدأ من مكان واحد: فتح الدفاتر بعد الانطلاق في عمليّة إعادة الهيكلة، وهذا ما ترفضه جمعيّة المصارف.

المادة السابقةالمواطن ضحيّة ضرائب مضخّمة والسجل العدلي المثل الأعلى بـ500 الف ليرة!
المقالة القادمةهل تتضمن رخصة السوق اللبنانية الجديدة شريحة تعقب؟