في العام 2020 وُضِعَ مشروع سدّ بسري خلف الكواليس، بعد تأكيد البنك الدولي وقف استكمال تمويل المشروع، بفعل الضغوط التي شكّلها أهالي وفعاليات المنطقة المتضرّرة من السدّ، بدعمٍ علميّ من أهل الاختصاص الذين أقفلوا الأبواب أمام الادعاءات التي تروِّج لأهمية السدّ في إيصال المياه لمنطقة بيروت الكبرى وضواحيها.
بعد مرور نحو 4 سنوات، يُمهَّد الآن للمشروع سياسياً وإعلامياً. والحجّة دائماً هي تأمين المياه للناس. لكن هل فعلاً إحياء المشروع فيه منفعة للناس؟ وهل هناك مصادر أخرى أكثر أماناً وأوفر مادياً لتمكين الناس من شرب مياه نظيفة؟
رفض السدود بلغة علمية
أُشبِعَ ملفّ السدود عامة وملف سدّ بسري خصوصاً، بالمعلومات التي توفِّرها الدراسات العلمية التي أجرتها البعثة الجيولوجية الفرنسية في لبنان في حقبة العشرينيات، ولاحقاً تقرير الأمم المتحدة للتنمية UNDP بعنوان “لبنان.. المياه الجوفية” الصادر في نيويورك سنة 1970.
هذه التقارير، وفق ما يقوله الهيدروجيولوجي سمير زعاطيطي، “تبيِّن أن طبيعة لبنان الجبلية تشكل خزّانات صخرية ضخمة للمياه، تسرِّب المياه السطحية عبر الشقوق والكسور والتفسخات وفراغات التذويب إلى العمق الصخري، وتجري المياه في مسارب تحت الأرض لتغذي الينابيع والأنهار، ويمكن سحبها إلى السطح عن طريق حفر الآبار. وإحدى الإيجابيات في هذا التكوين الجيولوجي الكارستي الفريد في منطقة الشرق الأوسط، حيث لا يشبهه سوى طبيعة الجبال في تركيا، هي أن هذه الموارد المائية متجدّدة سنوياً”.
ولأن جيولوجية لبنان جبلية كربوناتية كارستية بهذا الشكل، يرى زعاطيطي أنه “يستحيل أن يصمد فوق سطحها أي تجمُّع للمياه. وبالنسبة لموقع سد بسري الواقع بين فالق روم وفالق باتر، أثبتت معطيات حفر الآبار بهذا الوادي أن الفراغات والمجاري المائية الضخمة جعلت الصخور هناك هشة وقابلة للإنهيار والخسف بما يشبه “البسكويت الهشّ”، فقد انهارت هناك جوانب 4 آبار وخسفت الأرض، فكيف إذا زدنا الثقل على هذه الطبقة الهشّة بوضع قاعدة إسمنتية وخزنّا المياه فوق أرض خسفت بالماضي وستخسف حتماً تحت وزن السد؟”.
إلى جانب الدراسات العلمية التي تثبت عدم قدرة السطح على حبس المياه، يؤكّد زعاطيطي أن “الفلاحين في جميع المناطق اللبنانية، يدركون طبيعة الأرض التي تمتص المياه، ويعرفون كيف تخسف الأرض وتبتلع المياه“. ولذلك فإن المسألة ليست ببساطة أن نضع حائطاً في وادٍ لمنع جريان المياه، ثم نسحب منه لتشرب المناطق”.
من أين تشرب بيروت والضواحي؟
إيصال المياه إلى بيروت وضواحيها عملية بسيطة جداً وليست بالتعقيد الذي يتصوّره البعض. وببساطة علمية، يقول زعاطيطي أن المياه تأتي من المخازن الجوفية المتكشّفة شرق بيروت، وحفر آبار في المناطق الشرقية المرتفعة عن بيروت وضواحيها يؤمّن وصول المياه بالجاذبية دون ضخ. ويمكن اختيار نقاط الحفر بالتوازي مع كل منطقة يُراد إيصال المياه إليها. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن آبار مناطق وادي شحرور وبسوس تؤمِّن المياه للضاحية الجنوبية، عن طريق الجرّ بالجاذبية، ويتم تأمين المياه لمناطق الشيّاح وعين الرمانة وفرن الشباك والأشرفية وبيروت الكبرى ضمن الإطار نفسه، كُلٌّ من المرتفعات القريبة منها”.
التأكيد العَمليّ لهذا الكلام، يكمن في التجربة التي تمّ تنفيذها خلال فترة الاحتلال الإسرائيلي في المناطق الجنوبية. فيشير زعاطيطي إلى أن “مجلس الجنوب حَفَرَ نحو 40 بئراً في منطقة الشريط الحدودي بين العامين 1994 و1998، وحفِرَت تلك الآبار كي لا يضطر أهل الجنوب في ذلك الوقت إلى شراء المياه من الشركة الإسرائيلية MECOROT التي كانت تبيع المياه بسعر 1.5 دولار لكل متر مكعب”. علماً أن الشركة الإسرائيلية هي “شركة المياه الرسمية في إسرائيل” وتوفِّر حسب ما تورده على شبكة الانترنت “حوالى 80 بالمئة من مياه الشرب وحوالى 70 بالمئة من إجمالي الاستهلاك للسكّان”.
كما أن آبار مناطق وادي جيلو وفخر الدين في صور والنبطية، هي أمثلة حيّة على جدوى استثمار المياه الجوفية بواسطة الآبار لتأمين المياه للمواطنين.
سماسرة وهدايا
إعادة إحياء النقاش حول السدّ، في محاولة لاستعادة التمويل واستكمال المشروع، ترافقَ مع حملة دعم يقودها بشكل أساسي نواب حزب الله، في مقابل حملة رفض يبرز فيها نواب تغييريون، منهم إبراهيم منيمنة وحليمة قعقور، بالإضافة إلى نواب الحزب التقدمي الإشتراكي، ومنهم بلال عبدالله.
المؤيّدون يستعيدون سردية حاجة أبناء الضاحية الجنوبية للمياه، ويُعيد ذلك التذكير بالنبرة المرتفعة لنواب الحزب قُبَيلَ اتجاه البنك الدولي لسحب التمويل. فحينها، استعمل أولئك النواب شعار المقاومة للدفاع عن مشروع السدّ، معتبرين أنه يساهم في تأمين المياه لشعب المقاومة وبيئتها. في حين كان الرفض مبنياً على أسس عملية تتحدّث عن الطبيعة الجيولوجية للبنان، فضلاً عن رفض إيصال مياه ملوّثة إلى أهل الضاحية الجنوبية وبيروت عموماً، فيما لو جرى تنفيذ السدّ. وعلى افتراض أنه استطاع جمع المياه، فإن تلك المياه ملوَّثة لأنها تستند بشكل أساسي على مياه بحيرة القرعون وعلى مسارب مياه الصرف الصحي المفتوحة على مصادر المياه السطحية والجوفية. فهل يرضى نواب المقاومة إيصال مياه ملوّثة إلى أهل الضاحية؟. خصوصاً وأن مشاريع معالجة مياه الصرف الصحي معطّلة بقرارات سياسية، بعد أن كانت حججاً للبنك الدولي لدعم مشروع السد، انطلاقاً من أن المياه التي ستأتي إليه، ستُعالَج بمحطات التكرير.
ومع عرض الحجج العلمية المستندة إلى التقارير الفرنسية التي تفصِّل الخريطة المائية للبنان. وبالإستناد إلى التجربة العَمَلية في حفر الآبار، وإلى خبرة الفلاحين في كل المناطق اللبنانية، لا يجد زعاطيطي تفسيراً للدفاع عن مشاريع السدود، وعن سد بسري تحديداً، سوى “السمسرات والهدايا للطبقة السياسية”.
ولا يخفي زعاطيطي أن معلومات “موثوقة” وردت إليه حول “سماسرة عقارات ذوي نفوذ وغطاء حزبي في مناطق الضاحية الجنوبية لبيروت، اشتروا عقارات بعد علمهم بخط سير شبكات المياه التي ستُحفَر ضمن مشروع إيصال مياه سدّ بسري إلى الضاحية. ويعوِّل هؤلاء على بيع تلك العقارات للدولة حين ستلجأ إلى استملاك العقارات لإنجاز مشروع السدّ، فيحقّقون أرباحاً مالية هائلة”. ويدعو زعاطيطي “اتحاد بلديات الضاحية الجنوبية والمسؤولين والفعاليات السياسية في المنطقة، إلى التحقُّق من الدراسات العلمية إن كانوا يريدون إيصال المياه إلى الضاحية، إلاّ إذا كان الهدف النهائي هو السدّ بحدّ ذاته وليس المياه”.
إلى جانب سماسرة العقارات، لا يستبعد زعاطيطي أن يكون مشروع سدّ بسري هو “هدية من البنك الدولي لمَن وافقَ على صفقة ترسيم الحدود البحرية. فالمشروع يتيح مئات ملايين الدولارات لمافيات الفساد والسلطة، يمكن تقاسمها، على عكس مشاريع الآبار التي ليس فيها هذا الكمّ من المنفعة، لأنها أرخص وتنفيذها أوضح”. وبالتالي، يجزم زعاطيطي بأن مشروع سدّ بسري وكافة السدود الأخرى “وُجِدَت لتسقُط ولنخسر الأموال ضمن صفقات سياسية، والبنك الدولي يعلم ذلك، بل هو يموِّل الفاسدين”.
ثلاثة مليارات متر مكعب سنوياً هي حصيلة ما تستقطبها جبال لبنان من المياه، بتأكيدات من دراسات علمية “يتركها المستفيدون تذهب إلى البحر وإلى إسرائيل، ولذلك يهتم البنك الدولي بتمويل مشاريع السدود، ليمنعنا من استغلال مياهنا الجوفية”، هذه هي خلاصة قضية السدود بالنسبة إلى زعاطيطي الذي يأمل أن يواصل المعترضون الضغط لوقف مشاريع السدود.