قد يكون ملف إدارة السّير والآليات ومصحلة تسجيل السّيارات-“النافعة” (من أكثر القطاعات العامة إنتاجيّةً)، وبكل ما يُحيط به من اتهاماتٍ وواقعٍ إداريّ فضائحيّ وقضايا فسادٍ وسرقة موصوفة انبثقت في السّنوات الأخيرة، وما يصاحبها من تمييع موصول للإجراءات القضائيّة بحقّ المتورطين، نموذجاً حيّاً للعطب التاريخيّ في جوهر النظام اللّبنانيّ. هذا النظام القائم على علاقةٍ مواربة وملتويّة بين أولويات الحكم والسّياسة والإدارة، الّتي جعلت من فكرة التخلص من آفة اللصوصيّة والهدر شبه مستحيلة. نظرًا لكون الأزمات تُغذي نفسها في حلقةٍ محكمة الإغلاق.
مُجدّدًا، وبعد عودتها بصورةٍ جزئيّة ومتقطعة، تبرز “النافعة” على ساحة المرافق العامة المُحاطة بالقاضمين للأموال العامة، بالرغم من الإجراءات والآليات لـ”تنظيفها” كما وعد المعنيون. إذ تمّ التقدم في غضون الشهور الأخيرة بإخباراتٍ أربعة أمام النيابة العامة الماليّة، على خلفية تبديد أموال المواطنين وإثراء غير مشروع وإستغلال نفوذ وهدر أموال عامة، في سياقات عدّة. هذه الإخبارت الّتي أكدّت أن ما تعهد به القيميون لا يزال قيد النوايا الحسنة، ولم يُطبق حتّى اللحظة على أرض الواقع.
الإخبار الأول: رسوم لقاء خدمات غير موجودة
الإخبار الأوّل هو الذي تقدم به المحامي علي عباس والمواطن شاكر محمود طالب، في السّابع عشر من كانون الثاني الفائت، أمام النائب العام الماليّ علي إبراهيم، وموضوعه “هدر وتبديد وسرقة المال والمواطنين بمعرض إستيفاء هيئة إدارة السّير والمركبات، بالاشتراك مع شركة إنكربت المُشغلّة للمرفق، رسوم إضافيّة لقاء خدماتٍ غير موجودة”.
وقد سبق وأشارت “المدن” إلى ظروف هذا الهدر (راجع “المدن”)، باستيفاء رسوم، وتحقيق أرباح طائلة على حساب المال العام والمواطن لقاء خدمة إصدار لوحات تسجيل آمنة ولاصقات إلكترونيّة، ذلك رغمًا عن عدم وجود أيًّ منها، حيث أن المواطن يُسدّد هذه الرسوم من دون أن يحصل على الخدمة التّي جرى وضعها لغاية إفادته منها. فيما لم يُعرف للآن مصير هذه الأموال، التّي يجري دفعها بواسطة الشركات الماليّة الخاصة، وليس عن طريق ماليّة الدولة اللّبنانيّة، وبغياب أي رقابة أو إشراف للدولة اللّبنانيّة على ما يحدث من تحصيل للأموال في هذا المرفق العام، المفتوح كباب للسّرقة والهدر.
فيما علمت “المدن”، أن الإخبار تحول إلى دعوى قضائيّة بحقّ كل من شركة “إنكربت” وهشام عيتاني (مدير الشركة العام)، وهي حاليًّا بعهدة قاضي التحقيق فؤاد مراد، وسيتمّ البحث فيها في جلسةٍ من المُزمع إنعقادها بتاريخ 21 أيار الجاري. وفي هذا السّياق أشار المحامي علي عباس “للمدن”، أنّهم سيتابعون حتّى آخر لحظة هذا الإخبار وغيره من الإخبارات الّتي تقدموا بها وفي صدّد التقدم بها، حتّى توقيف المتورطين. ويُلحظ نوع من التجاوب لدى الجهات القضائيّة الّتي باشرت في إجراءاتها.
الإخبار الثاني: إستيفاء مبالغ من دون إيصال أو سندٍ قانونيّ
أما الإخبار الثاني، فتقدم به كل من المحامين، علي عباس، وواصف الحركة، وجاد طعمة، والمواطن شاكر طالب، بتاريخ 18 نيسان الفائت، على خلفيّة إستيفاء مبلغ مليون ليرة لبنانيّة عن كل إستمارة إستعلام عن مركبة في وحدة الشرطة القضائيّة، مكتب تنفيذ أحكام السّير في بيروت وفي الشمال، من المواطنين، من دون أي إيصالِ أو سندٍ قانونيّ، بالتزامن مع تسديد الرسم المنصوص عنه للإستمارة لدفاتر السّوق بموجب إيصالات تصدرها شركة انكربت وهيئة إدارة السّير والمركبات. تمّ الإعلان عن هذا الرسم بورقة جرى منذ فترة تعليقها على باب قسم المحفوظات الجنائيّة في بيروت والشمال، يتضمن الإشارة الى أن رسم إستمارة إستعلام عن مركبة أصبح مليون ليرة لبنانية .
وأشار المحامون في نصّ الإخبار، لكونهم قد سبق واستفسروا عن كيفيّة دفع هذا المبلغ، وما إذا كان هناك أي سند قانونيّ أو إيصال يُسلم للمُتقدم بالطلب. أما الإجابة الّتي تلقوها، هو عدم وجود إيصالات، وأن الإيصال الوحيد هو الإيصال الرسميّ الذي يصدر عند تقديم استمارة لدفاتر السوق، حيث يجري تسديد إيصال لمصلحة شركة انكربت وإيصال لمصلحة الهيئة”. وأكدّ هؤلاء، أن لا تصورَ واضحًا عن مصير هذه الأموال، وإلى أي صندوق تُضاف لدى إستيفائها، ولم تكن الشركة والمصلحة، واضحتين في هذا السّياق بعد مساءلتهما.
الإخبار الثالث: استثناءات لاقانونيّة مقابل خمسين دولاراً أميركيّاً
بالتاريخ نفسه، تقدم المحامون آنفو الذكر، بإخبارٍ آخر، قد يكون أخطر من الإخبارين السّابقين، وتمكنوا من خلاله بفضح سلسلة أخرى من التجاوزات والانتهاكات القانونيّة، لقاء رشى وبدلات ماليّة استفاد منها المتورطون وحسب. وتمثل التجاوز، بتخصيص يوم الإثنين من كل أسبوع لسيارات المعارض، لقاء بدلٍ ماليّ يصل إلى خمسين دولاراً أميركيّاً على كل سيارة. إذ تمّ التداول منذ فترة، بتسجيلين صوتيين، أحدهما منسوب إلى رئيس نقابة أصحاب المعارض وليد فرنسيس، يُعلم فيه أصحاب المعارض بتخصيص يوم الإثنين من كل أسبوع لهم لتسجيل سياراتهم دون باقي المواطنين، وتسجيل آخر يشير إلى وجوب تسديد مبلغ بالدولار الأميركيّ عن كل سيارة، حيث تقرر تسجيل ما بين 150 و200 سيارة في اليوم الواحد.
ووقعت المفارقة، أنّه وبعد افتضاح هذه السّرقة خرج فرنسيس في إحدى نشرات الأخبار التلفزيونية، وصرح أنّ المبلغ المذكور يدفع لمصلحة النقابة، واعتبره المتقدمون بالإخبار إقراراً واضحاً وصريحاً منه على حقيقة تقاضي مبالغ عن تسجيل كل سيارة، من دون أن يُسمح لأي مواطنٍ آخر بتسجيل سيارته. كما لا يسمح للمواطن الذي اشترى سيارة من المعرض بتسجيل سيارته إلا بعد تسديد هذا المبلغ.
بالتاليّ، تتوافر في هذه الاستثناءات غير القانونيّة، شبهات بهدرٍ وتبديد وسرقة للمال العام، واستغلال نفوذ. وعليه، يتحقق بذلك -وفقًا لنصّ الإخبار- هدر وتبديد وسرقة المال العام والمواطنين واستغلال نفوذ، بمعرض تخصيص يوم الإثنين من كل أسبوع في هيئة إدارة السير والمركبات، لسيارات المعارض، لقاء بدل مالي يصل إلى خمسين دولاراً أميركيّاً عن كل سيارة. وبالتالي، تتحقق جرائم الإخلال بالواجبات الوظيفيّة واستثمارها لأهداف ومكاسب خاصة واختلاس أموال واستغلال نفوذ، وفق الجرائم المنصوص عنها في المواد 351 ولغاية 366 من قانون العقوبات، إضافة الى جرائم سرقة المواطنين والاحتيال عليهم والإثراء غير المشروع، المنصوص عنه في المرسوم رقم 38 تاريخ 18 كانون الأوّل 1953 المُعدل بالقانون رقم 154 تاريخ 16 تشرين الثاني 2020.
الإخبار الرابع: تمرير سيارت غير خاضعة للكشف مقابل بدل ماليّ
والإخبار المُتعلق بالتربح والإثراء غير مُشروع، جرّ معه “فضيحة” أخرى، تتشابه ملابساتها مع الفضيحة الأولى، حيث وثق المحامون هدرًا وتبديدًا للمال العام واستغلال نفوذ ومخالفة قانون السّير في هيئة إدارة السّير والمركبات الآليّة، بمعرض تسجيل السيارات السّياحيّة الخصوصيّة، بعد سحبها من السّير من دون إخضاعها للكشف المسبق، خلافًا لنصّ المادة 156 من قانون السّير، والتصديق على تواقيع المواطنين ومسك السّجلات والدفاتر من أشخاص غير مستوفين لشروط قانون السّير، لا سيما المادة 165، الّتي تفرض حلف يمين مُحدد أمام القاضي المنفرد الجزائيّ. وبالتالي، تتحقق جرائم الإخلال بالواجبات الوظيفيّة واستثمارها لأهدافٍ ومكاسب خاصة واختلاس أموال واستغلال نفوذ، وفق الجرائم المنصوص عنها في المواد 351 ولغاية 366 من قانون العقوبات، وغيرها من المواد القانونيّة.
وقد تبين بالإضافة إلى ذلك “استثناءات” لتسجيل سيارات الأنقاض مع سيارات المعارض، لقاء مبلغ 250 دولاراً أميركيّاً، بإستغلال واضح للنفوذ. ذلك وفق ما يظهر من خلال تسجيلين جديدين لوليد فرنسيس يطلب خلالهما من أصحاب السّيارات الأنقاض عدم المجيء يوم الإثنين لأنه سيصدر قرار بإعفائها من الكشف. وبالفعل صدر بتاريخ 22 نيسان الفائت، عن رئيس مصلحة تسجيل السيارات والآليات والمركبات، الرائد محمد عيد، قرار بتسجيل السيارات السياحية الخصوصية بعد سحبها من السير، أي سيارات الأنقاض، من دون إخضاعها للكشف المسبق. هذا القرار المخالف أصلًا لأحكام المادة 156.
وإزاء هذه الإخبارات -بما تحمله من كشف لنمطٍ فضائيحيّ و”مُبتكر” في افتعال الفساد واللصوصيّة، بمرونةٍ فائقة، بالالتفاف حول القوانين واستغباء المواطنين- يبقى التعويل على القضاء اللّبنانيّ دون غيره، بانتفاء أي جهة رقابيّة منوطة بإصدار الأحكام. وفي حين قد يبدو هذا التعويل، ضربًا من الهذيان والمثاليّة، لكنه يحمل في فحواه، مسؤوليّةً مرميّة على عاتق الجسم القضائي، ليُثبت ولو لمرة منذ زمن طويل، أنه الناطق باسم الشعب و”حصن” حقوقه المتين، بعد عشرات المحطات الّتي أظهر فيها عكس ذلك.