عراقيل بالجملة وُضِعَت أمام عملية التدقيق الجنائي في مصرف لبنان، بدءاً من هوية الشركة التي ستُجري العملية، وصولاً إلى عقبة السرية المصرفية التي واجهتها شركة ألفاريز أند مارسال، التي رسى عليها القرار بإجراء التدقيق. مروراً بعوائق غير جوهرية، مثل عدم وجود مكاتب في مصرف لبنان لتستعملها الشركة خلال عملها.
أزيلت كل العوائق وانتهت الشركة إلى تقرير سمّاه وزير المالية يوسف الخليل “مسودة عن التقرير الأولي للتدقيق الجنائي”. واستند الخليل إلى هذه الصفة لإخفاء مضمونه وحجبه حتّى عن مجلس النواب، أي عن السلطة التشريعية التي تملك حق مساءلة الوزراء وطرح الثقة بهم. فما هو سبب استمرار إخفاء التقرير رغم المطالبات بكشفه استناداً إلى القانون؟
لا نية لكشف التقرير
تقديم عدد من النواب التغييريين يوم أمس كتاباً إلى وزارة المالية للكشف عن مضمون التقرير، ليس يتيماً، بل سبقه كتب وطلبات من محامين وجمعيات، باءت محاولاتهم بالفشل. ومَع أن تسجيل الكتب بشكل رسمي في قلم الوزارة يعني “التثبيت القانوني لعملية طلب الحصول على التقرير، وأرشفة ذلك للتاريخ”، إلاّ أن الخليل “لن يُسلِّم التقرير للنواب. وهو انطباع لمسناه خلال اللقاء معه”، وفق ما تؤكّده النائبة بولا يعقوبيان، التي تشير في حديث لـ”المدن”، إلى أن الخليل “وَعَدنا بدرس طلب الحصول على التقرير” (راجع المدن).
طريقة تعامل وزير المالية مع النواب وإصراره على عدم كشف مضمون التقرير، رغم عدم تعلّق مضمونه بأسرار الدولة أو بالأمن والدفاع “يعني أن هناك ما يريد إخفاءه”. والمشكلة الأكبر ان الإخفاء يتم عن أعين “ممثلي الشعب، الذين باسمهم تم دفع 2.5 مليون دولار لإجراء التدقيق”. وتخلص يعقوبيان إلى أنه في ظل وجود قانون حق الوصول إلى المعلومات “لا مبرِّر لعدم كشف مضمون العقد”.
ذريعة الخليل بضرورة حصوله على موافقة مجلس الوزراء لتسليم التقرير، ساقطة بالقانون وبالعُرف. فقانون الحق في الوصول إلى المعلومات أعطى اللبنانيين الحق في الاطّلاع على التقرير “الذي لا تنطبق عليه الاستثناءات ومنها المتعلّقة بالأمن القومي والأسرار المهنية أو التجارية، ولا ينال مضمونه من المصالح المالية للدولة ولا من سلامة العملة الوطنية. بل على العكس، يساهم مضمونه في الكشف عن أسباب انهيار العملة”، على حد تعبير رئيس لجنة حماية حقوق المودعين في نقابة المحامين، كريم ضاهر، الذي يرى في حديث لـ”المدن”، أنه إذا كان في التقرير “ما يتعلّق بأسرار لمصلحة الدولة، يجب أن يكون مباحاً في هذه الظروف، لأنها أسرار عن الانهيار، ويجب الإطّلاع عليها”.
حماية رياض سلامة
ما يتمسّك به الخليل يتّصل بالعقد الموقَّع بين الدولة اللبنانية ممثَّلة بوزارة المالية وبين شركة ألفاريز أند مارسال، التي تواطأت مسبقاً لإخفاء النتائج التي ستتوصَّل إليها. والمثير للتساؤل هو تضمين العقد معها لبندٍ “يمنع نشر التقرير إلا بموافقتها، وإذا كان لا بد للدولة من نشر مقتطفات منه، فيُنشَر من دون الإشارة إلى إسم الشركة التي تبقى غير مُلزَمة بالمعلومات التي يتم نشرها”، وفق ضاهر الذي يلفت النظر إلى أن “هذا التفصيل ليس موجوداً في أي عقد لإجراء تدقيق جنائي في دولة أخرى غير لبنان”.
وحرص الشركة على عدم النشر يعني وجود ما تريد إخفاءه، ليس فقط النتائج التي وصلت إليها خلال التدقيق، بل بآلية عملها. أي أن الكشف عن التقرير يطال سمعتها من الناحية التقنية. فمن المفترض أن لا تكترث للنتائج وانعكاساتها على الأشخاص اللبنانيين طبيعيين أو معنويين، أفراداً أو جماعات. فالتقرير بالنسبة للشركة هو مُنتَج باعته للدولة اللبنانية لقاء مبلغ مالي، ليس إلاّ، ويُبَيِّن بصورة معيَّنة، جودة عملها في مجال التدقيق.
تمتد الشكوك وصولاً إلى ما يتعلّق بحاكم مصرف لبنان رياض سلامة. فمن البداية كانت حماية الرجل مهمّة أوّلية بالنسبة للسلطة السياسية. وما يحصل من استخفاف قضائي بالتعامل مع ملفّه وملف المتورّطين معه، ليس سوى أدلة إضافية على نيّة الحماية. وهنا يأتي دور عدم الكشف عن التقرير. فحسب ضاهر “كل شيء مؤجّل لما بعد انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان”. ويخشى ضاهر من أن تقوم السلطة السياسية بـ”إلباس الحاكم مسؤولية ما سيرد في التقرير، بعد انتهاء ولايته، فلا أحد يرغب بمحاسبة الحاكم وهو في موقع المسؤولية الآن”.
تجديد هدر المال
للقضية وجه آخر يتخطّى مضمون التقرير وعلاقته بالمنظومة الحاكمة. إذ يذهب ضاهر إلى أن الإصرار على صيغة المسودّة أو التقرير الأوّلي، مَرَدُّه إلى أنه “في العقد مع الشركة، هناك تقرير أوّلي يتبعه تقرير نهائي يتم الاتفاق عليه مع الدولة بشكل منفصل عن العقد الذي تمّ بموجبه إجراء التدقيق وإصدار التقرير الأوّلي الذي تملكه اليوم وزارة المالية”. أي أنه في حال أرادت الدولة معرفة المزيد من التفاصيل والاستفسارات “عليها التعاقد مع الشركة، بمدّة زمنية جديدة وبكلفة مالية أخرى. أما التعليقات والتوضيحات والملاحظات التي يفترض بالدولة وضعها حول مضمون التقرير الأولي، فتنتهي مهلتها بعد أسبوعين من تسليم التقرير، أي أنها باتت من الماضي، ولم يُطلَب أي استفسار”. ولذلك، لا شيء يمنع تجديد هدر المال العام مستقبلاً بحجّة الوصول إلى معلومات أعمق. إلاّ إذا كان الملف سيُقفَل كلياً بعد ولاية سلامة.