إنخفاض التعرفات الجمركية والإفراط في التخزين رفعا الفاتورة إلى مستويات قياسية
تغطية إحتياطيات العملات لفاتورة الاستيراد إنخفضت من 22 شهراً إلى 6 أشهر فقط
التجار والمستوردون يمارسون حرب استنزاف للدولار وهذا يضعف الليرة أكثر
إقتصاد الكاش ينهش القاعدة الضريبية ويُعرقل الانتعاش الاقتصادي السليم والمستدام
آليات تكيّف سلبية ومجموعة حوافز ضارة تفيد أقليّة من السكان على حساب البقية
شرائح من السكان غيّرت كميّات وأنماط استهلاكها وتحوّلت إلى المنتجات الرخيصة
إنخفاض استيراد الغذاء والأدوية سيؤدي إلى تعرّض السكان إلى سوء أوضاع صحية
نسبة جمارك 83% من المستوردات لا تتجاوز 5%… واتفاقات التجارة الحرّة ضارة
تراجع استيراد الغذاء والمنتجات الصيدلانية مقابل ارتفاع استيراد السيارات و«النفائس»
إرتفاع الاستيراد ليس انتعاشاً بل خللاً يفيد المستوردين والتجار وأصحاب المداخيل بالدولار
إتّساع الفجوة بين أصحاب المداخيل بالليرة والدولار… والأكثر ضعفاً سيعانون أكثر
أجرى فريق تحليل الأزمات في لبنان LCAT تحليلاً عن الاستيراد أكّد فيه أن فاتورة الواردات في لبنان مرتفعة بشكل لا يتناسب مع الوضع الاقتصادي المتردّي السائد، إذ تجاوزت قيم الواردات احتياطيات العملات الأجنبية العامة في عام 2022، ما يشير الى اختلال في التوازن لم تتمّ ملاحظته منذ نهاية الحرب الأهلية. وفي ما يلي أبرز ما جاء في التقرير:
تكشف بيانات الاستيراد لعام 2022 عن العديد من الاتجاهات الأخرى المثيرة للقلق، حيث استفاد المستوردون من انخفاض التعرفات الجمركية على السلع غير الأساسية، ما أدى إلى الإفراط في التخزين في حين أن التفاوت في قيم الواردات بين السلع الأساسية والمنتجات الكمالية، مثل المجوهرات والسيارات، يثير تساؤلات حول تخصيص الموارد وتحديد الأولويات. تهدّد هذه الممارسات بإطلاق العنان لمجموعة واسعة من الآثار الاجتماعية السلبية التي تؤكّد ضرورة أن تفهم الجهات الفاعلة في مجال الإغاثة في لبنان، ديناميكيات الاستيراد بشكل أفضل عند تخطيط أو إدارة برامج المساعدات.
تخصيص غير حكيم للموارد
بشكل عام، يؤدي الاعتماد الشديد على الواردات وتخصيص الموارد بشكل غير حكيم إلى إجهاد احتياطيات لبنان المحدودة من النقد الأجنبي التي كان من الأفضل استخدامها في استيراد المنتجات الأساسية. وفي الوقت نفسه، فإن الاقتصاد غير الرسمي المتنامي والقائم على النقد ينهش القاعدة الضريبية للدولة، ما يعوق الانتعاش الاقتصادي على المدى الطويل، كما يحدّ من القدرة الشرائية للبنانيين الذين يحصلون على رواتبهم بالليرة، في ظل اقتصاد يزداد اعتماداً على الدولار والاستيراد. وفي الوقت نفسه، تستمرّ الفجوة بين أصحاب الدخل بالدولار والليرة في الاتساع، كما يتضح من الزيادة غير المسبوقة في واردات المعادن الثمينة والمجوهرات وغيرها من السلع الكمالية، ومع ازدياد التفاوت في الثروة والدخل، ستستمرّ الفئات الأكثر ضعفاً من السكان في الاعتماد على المساعدات الإنسانية.
أمر غريب
كان لانهيار القطاع المالي في لبنان في خريف عام 2019، تأثير كبير على تمويل التجارة في بلد يعتمد بشدة على الواردات حيث تظهر البيانات المتعلّقة بمستويات الواردات في لبنان لعام 2022، أنه تم إنفاق كمية كبيرة بشكل محيّر من العملات الأجنبية على الواردات في الوقت الذي تواجه فيه البلاد انهياراً مدمّراً للاقتصاد الكلي، في مقابل بلدان أخرى تعاني أيضاً من التدهور الاقتصادي والتقلّبات الشديدة في أسعار العملات، إلّا أن وارداتها تميل إلى الانخفاض لأنها تصبح باهظة الثمن ما يسفر عن زيادة الإنتاج المحلي وتكيّف سلوك الاستهلاك. ومثال عن هذا النمط هو الاقتصادات المتأثرة بالأزمة المالية الآسيوية في أواخر تسعينات القرن العشرين، مع انخفاض حادّ في الواردات يليه نموّ مدفوع بالتصدير. وفي حين أن أحدث بيانات الواردات من لبنان قد تدفع البعض إلى استنتاج أن الانتعاش الاقتصادي جارٍ أو أن الموارد الاقتصادية المتاحة أكبر مما كان يفترض سابقاً، إلّا أن هذه الاستنتاجات غير صحيحة على الأرجح، إذ يظهر التدقيق أن بيانات الواردات لعام 2022 مقلقة وتعكس اقتصاداً يعمل على أساس مجموعة ضارة من الحوافز وآليات التكيف السلبية التي تفيد أقلية من السكان؛ ومن ضمن هذه الآليات الاستفادة من الإعفاءات الضريبية الكبيرة على السلع الكمالية (ما يؤدي إلى الإفراط في التخزين من قبل بعض المستوردين، ولا سيما السيارات والمجوهرات) قبل الزيادات الضريبية المتوقّعة، والاستهلاك غير الفعّال لمنتجات الوقود لتوفير الكهرباء، واستيراد الآلات الباهظة الثمن للتعامل مع انهيار توفير الكهرباء المركزي. ويمكن للجهات الفاعلة الإنسانية أيضاً أن تميّز الاتجاهات المقلقة من بيانات الواردات في ما يتعلّق بالمبلغ المنخفض نسبياً الذي ينفق على الأدوية أو حليب الأطفال، على سبيل المثال.
وتؤدي هذه الممارسات إلى إنفاق لبنان مبالغ مفرطة من احتياطياته الأجنبية المحدودة، ما ينذر على الأرجح بظروف اقتصادية أسوأ بكثير في المستقبل مما لو كانت البلاد قادرة على التكيف بطريقة أكثر قابلية للإدارة وأكثر استدامة مع البيئة الاقتصادية والنقدية الحالية.
النتائج الرئيسية للدراسة
• بلغ إجمالي فاتورة الواردات اللبنانية 19.5 مليار دولار في عام 2022، لتعود إلى مستويات ما قبل الأزمة.
• على الرغم من انخفاض الكمية الإجمالية للواردات، أدّى ارتفاع الأسعار العالمية للسلع الأساسية وتكاليف اللوجستيات إلى زيادة قيمة الواردات
• ارتفعت الواردات نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي في لبنان إلى 90.7% في عام 2022، ما يشير إلى اتجاه متزايد للاعتماد على الواردات.
• وفي عام 2022، تجاوزت واردات السلع الفاخرة مثل السيارات والمجوهرات السلع الأساسية مثل الأدوية وحليب الأطفال.
• زادت واردات السيارات والمركبات بشكل كبير في عام 2022، وذلك على الرغم من ضعف الاستهلاك الخاص ومحدودية احتياطيات العملات الأجنبية.
• إنخفضت الواردات الطبية بشكل كبير في عام 2022، مع انخفاض الأدوية بمقدار النصف، ويعزى هذا الانخفاض إلى انهيار نظام الرعاية الصحية والتعقيدات البيروقراطية مع برامج الدعم.
• إن المستوردين هم جزء من «حرب الاستنزاف» على الأوراق النقدية بالدولار في السوق، حيث إن المنافسة الشديدة على الأوراق النقدية بالدولار الأميركي لا تضع ضغطاً هائلاً على المستوردين فحسب، بل تؤثر أيضاً على الاستقرار العام للاقتصاد اللبناني.
• إرتفعت الواردات الغذائية بنسبة 22% في عام 2022 لكنها ظلت دون مستويات ما قبل الأزمة، ما يعكس تغيّر أنماط الاستهلاك والتحول نحو السلع الأرخص.
• يضغط الاقتصاد اللبناني القائم على النقد، والذي أفاد البنك الدولي بأنه يشكل نسبة 45.7% من الناتج المحلي الإجمالي، على الليرة. وأصبح التداول خارج النظام المصرفي أمراً شائعاً حالياً لأن البنوك التجارية لا تؤدي دورها كوسيط مالي.
فاتورة الإستيراد
يحفل تاريخ لبنان في تعزيز التجارة الحرّة وتحرير الأسواق وتنطبق التعرفات الجمركية التي تساوي أو تقل عن 5% على أكثر من 83% من السلع المستوردة. وتراقب منظمة التجارة العالمية لبنان منذ العام 1999. وعلى الرغم من عدم إحرازه أي تقدم في عملية انضمامه الى المنظمة، فقد أبرم لبنان اتفاقات تحرير التجارة مع الاتحاد الأوروبي والعديد من البلدان العربية، ودخل اتفاق الشراكة الأوروبية – المتوسطية حيّز التنفيذ في نيسان 2006، ما مكّن من تطبيق التجارة الحرة المتبادلة على مجموعة واسعة من المنتجات الزراعية والأغذية المصنّعة. علاوة على ذلك، فإن سلع الدول العربية المختلفة معفاة أيضاً من الرسوم الجمركية بموجب اتفاقية منطقة التجارة الحرّة العربية الكبرى.
ووفقاً لبيانات الجمارك اللبنانية الرسمية التي جمعتها LCAT، بلغ إجمالي فاتورة الواردات اللبنانية 19.5 مليار دولار في عام 2022، لتصل إلى مستويات ما قبل الأزمة. ونتج انخفاض قيم الواردات في السنوات السابقة والتي بلغ مجموعها 11.3 مليار دولار في عام 2020 و 13.6 مليار دولار في عام 2021، عن الأزمة الاقتصادية والمالية، وانخفاض الاستهلاك، والآثار الاقتصادية العالمية لجائحة كوفيد-19.
وأدى انخفاض قيمة الليرة اللبنانية إلى زيادة طفيفة في الصادرات، حيث ارتفعت من 4 مليارات دولار في عام 2018 إلى 4.5 مليارات دولار في عام 2022، وفقاً لبيانات الجمارك اللبنانية، لكن مبلغ 500 مليون دولار الإضافي في الحساب الجاري للبنان لا يغطي العجز التجاري المتزايد الذي وصل إلى 15 مليار دولار في عام 2022.
إنخفاض ثم إرتفاع قوي
وفي حين ارتفعت فاتورة واردات لبنان في العام 2022 مقارنة بعامي 2020 و2021، إنخفضت الكميات الإجمالية للسلع المستوردة، حيث تم استيراد 12 مليون طن من السلع في العام 2022 مقارنة بـ 20 مليون طن في العام 2019. ومن المرجّح أن تكون هذه الزيادة في القيمة والانخفاض في الكمية، ناتجة عن الزيادة في أسعار السلع الأساسية العالمية والتكاليف اللوجستية الناجمة عن الصراع في أوكرانيا وآثار جائحة كوفيد-19. كما يجب أن تؤخذ الديناميكيات الاقتصادية المحلية في الاعتبار، وتحديداً كيفية ارتباط الزيادة في فاتورة الواردات اللبنانية بالأزمة الاقتصادية في البلاد، والتي تتميّز بظهور اقتصاد قائم على النقد وانخفاض حاد في قيمة الليرة اللبنانية، وارتفاع مستويات التضخم، وانخفاض ملحوظ في الظروف المعيشية.
كنسبة من الناتج
ويقدر البنك الدولي في تقريره الأخير عن لبنان الذي نشر في أيار 2023، أن الناتج المحلي الإجمالي انكمش بنسبة 2.6% في العام 2022 ليبلغ 21.5 مليار دولار ما أدى إلى أن معدل الاستيراد نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي قد بلغ 90.7%، بعد أن وصل إلى 33.2% في العام 2020، وهو معدل لم يتم تسجيله منذ ثمانينات القرن العشرين. كما تجاوزت قيمة الواردات احتياطيات العملات الأجنبية في عام 2022، وهي السنة الأولى التي يتم فيها تسجيل اختلال في التوازن منذ نهاية الحرب الأهلية في عام 1990. إن «إجمالي الاحتياطيات لتغطية أشهر من الواردات» هو مؤشر يستخدمه صندوق النقد الدولي لمراقبة الاستقرار النقدي في الدول. وبينما قدرت احتياطيات البنك المركزي بتغطية 22 شهراً في عام 2021، انخفضت هذه التغطية إلى ستة أشهر في عام 2022.
تداعيات على الليرة
وكانت للزيادات في الواردات تداعيات ملحوظة على انخفاض قيمة الليرة اللبنانية. وبدأ رفع الدعم عن الواردات في أيلول 2021، ما أجبر المستوردين على الاعتماد على السوق غير الرسمية لتوفير معظم العملات الأجنبية اللازمة للسداد. ومنذ رفع الدعم عن المنتجات الأساسية واقتصار معاملات منصة صيرفة تدريجياً على العملاء من القطاع الخاص، اعتمدت الشركات على الاقتصاد المحلي القائم على النقد من خلال جمع الدولار بشكل كبير من السوق. وعلى مدى السنوات الثلاث الماضية، فتحت العديد من الشركات أيضاً حسابات مصرفية في الخارج، متحايلة على ضوابط رأس المال التي تفرضها البنوك التجارية اللبنانية.
فئات المنتجات المستوردة
هذا وشملت فئات المنتجات المستوردة الرئيسية في عام ـ2022 «الوقود المعدني والزيوت المعدنية ومنتجات تقطيرها، والتي شكلت 29.29% من الواردات، تليها «الآلات والأدوات الكهربائية» بنسبة 12.9% ثم «المركبات، وخاصة السيارات» بنسبة 10.49%؛ و «اللؤلؤ والأحجار الكريمة والمعادن» بنسبة 8.83%.
وسجلت المشتقات النفطية أعلى زيادة، حيث ارتفعت فاتورة وارداتها بنسبة 44% في عام 2022، من 3.89 مليارات دولار أميركي في عام 2021 إلى 5.58 مليارات دولار أميركي في عام 2022. وعلى الرغم من زيادة فواتير الواردات، استورد لبنان كميات أقل من الوقود والزيوت المعدنية بنسبة 15% في عام 2022 من حيث الكمية؛ وتعزى زيادة الفواتير في المقام الأول الى ارتفاع أسعار الوقود العالمية وزيادة الاعتماد على المولدات لتوفير الكهرباء، حيث وصلت زيوت الغاز وزيوت الوقود إلى أعلى مستوياتها في عام 2022 وأوائل عام 2023. وأيضاً، زاد استهلاك الديزل منذ أواخر عام 2019، عندما بدأ إنتاج الكهرباء الحكومي غير الكافي في التعثر إضافة الى لجوء السكان، لسدّ الفجوة، الى إنفاق المزيد على المولدات الخاصة مقارنة بمحطات الشبكة الوطنية.
عدم مساواة في الأنماط الإستهلاكية
عند تحليل اتجاهات الواردات في لبنان، من الأهمية بمكان تسليط الضوء على التناقضات في قيمة السلع الأساسية، مثل الأدوية والمواد الغذائية، عند مقارنتها بالمنتجات الكمالية مثل السيارات والمواد الكمالية. فعلى سبيل المثال، تجاوزت فاتورة استيراد «الأعمال الفنية من لوحات وتحف»، فاتورة حليب الأطفال في كل من عامي 2021 و2022، ويثير هذا التناقض أسئلة مهمة حول تحديد أولويات الواردات وتخصيص الموارد، ما يستدعي دراسة أكثر دقة للآثار المترتبة على الاقتصاد والمجتمع في لبنان. وكان أكبر انخفاض في الواردات حسب الفئة في عام 2022 في المستحضرات الصيدلانية، والتي بلغت 551 مليون دولار أميركي في عام 2022، أي نصف ما تم تسجيله في السنوات السابقة (1.33 مليار دولار أميركي في عام 2018). وكقطاع فرعي، وصلت الأدوية إلى 341 مليون دولار أميركي في عام 2022، بينما كانت تمثل قبل الأزمة حوالي 1 مليار دولار أميركي سنوياً. ويعلل الإلغاء التدريجي لدعم الواردات جزئياً، الانخفاض الكبير في واردات الأدوية، بالإضافة إلى انهيار الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي والحالة الحرجة للمستشفيات العامة والخاصة، وهذا يدلّ على سوء نظام الرعاية الصحية في لبنان، حيث يتعمّد العديد من السكان الحدّ من حصولهم على الأدوية والفحوصات الطبية أو عدم قدرتهم على الوصول إليها بالكامل. إضافة الى ذلك، ووفقاً لأحد مستوردي الأدوية، فإن عدم الحصول على تأمين خاص هو أحد أسباب انخفاض مبيعات الأدوية بعد العام 2019 مشيراً الى أن الدولة قد كافحت للحفاظ على الدعم الطبي، حيث يقدم البنك المركزي أقل بقليل من 25 مليون دولار شهرياً لشراء الأدوية والمواد الخام لصناعة الأدوية المحلية؛ وقال: «لسوء الحظ، 25 مليون دولار لا تكفي لتغطية السوق»، مضيفاً أن الأخطاء الإدارية في برنامج الدعم وكذلك التأخير في مدفوعات البنك المركزي تعقّد واردات المنتجات المدعومة.
معادن ثمينة وأحجار كريمة
وبلغت فئة أخرى من الواردات، «المجوهرات واللؤلؤ الثمين والمعادن، بما في ذلك الذهب»، مستوى قياسياً بلغ 1.69 مليار دولار أميركي في عام 2022، أي خمسة أضعاف واردات الأدوية وقد يعزى ذلك جزئياً إلى الاهتمام المتزايد بالاستثمار في المواد الثمينة لمراعاة الوضع النقدي والمصرفي المتردّي في لبنان. ومن المثير للاهتمام أن البيانات تشير إلى أن معظم المعادن الثمينة والأحجار المستوردة في عام 2022 لم تستخدم في عمليات القيمة المضافة لإنتاج سلع قابلة للتصدير، وهذا يشير إلى أن الحجم المرتفع نسبياً لواردات المعادن الثمينة والأحجار الكريمة يرجع في المقام الأول إلى قيام شركات المجوهرات بعمليات شراء كبيرة قبل زيادة أسعار الصرف الجمركي، ما مكّنها من بناء المخزون والحفاظ عليه دون دفع تعرفات أعلى. وتجدر الإشارة الى أن إحصاءات الواردات المتعلقة بالأحجار الكريمة والمعادن الثمينة غير دقيقة على الأرجح لأن هذه المواد غالباً ما يتم جلبها بشكل غير قانوني إلى البلاد ما يعني أن إجمالي الكمية المستوردة يمكن أن يكون أعلى مما تشير إليه الإحصاءات الرسمية. وأفاد صناعي يتابع تجارة الذهب والأحجار الكريمة، بأن تجار الألماس يأتون إلى لبنان بملايين الدولارات من الأحجار ويبيعون جزءاً منها قبل مغادرة البلاد.
الواردات الغذائية
منذ عام 2019، تحوّل المستهلكون إلى شراء مواد غذائية أرخص وبكميات أقل وفقاً لممثل نقابة السوبرماركت، الذي أضاف أن هذا قد أدى إلى انخفاض الاستهلاك بين 60% إلى 70% مقارنة بعام 2018 وإغلاق حوالي 3000 متجر غذائي. وبلغت قيمة المواد الغذائية المستوردة 2.7 مليار دولار أميركي في عام 2022، مرتفعة من 2.2 مليار دولار أميركي؛ وفي حين لا يزال لبنان يعتمد بشكل كبير على الواردات لتلبية احتياجاته الغذائية، فإن الواردات الغذائية لعام 2022 أقل بكثير من تلك المسجلة في عام 2018 والبالغة 3.4 مليارات دولار. كما تشير بيانات الواردات الغذائية إلى أن المستهلكين يتكيّفون مع الواقع الجديد عند شراء السلع غير المعمرة المنخفضة التكلفة، ويستبدلون بشكل متزايد المنتجات الباهظة الثمن ببدائل أقل كلفة أو يقللون من استهلاكهم حيثما أمكن ذلك. وفي حين ساعد هذا الاتجاه على الحدّ من الاعتماد على الواردات الغذائية على المستوى الكلي، فقد تكون له آثار سلبية طويلة الأجل على صحة الأفراد وإمكانية حصولهم على الأغذية.
سيارات ومركبات
وبينما انخفضت واردات المواد الأساسية، زادت فواتير استيراد السيارات والمركبات بشكل كبير من 2020 إلى 2022، لتصل إلى أعلى مستوى مسجل لها، ففي عام 2019، بلغ إجمالي واردات السيارات 1.17 مليار دولار أميركي، وانخفض إلى 472 مليون دولار أميركي في عام 2020، وارتفع إلى 1.12 مليار دولار أميركي في عام 2021، وقفز إلى ملياري دولار أميركي في عام 2022. وهذه الزيادة لافتة للنظر في ضوء انخفاض عدد القروض الخاصة وتسهيلات السداد التي تمنحها البنوك، وضعف الاستهلاك الخاص، والانخفاض الحاد في مستويات احتياطيات العملات الأجنبية لتوفير خطوط ائتمان للتجارة.
محروقات ومشتقات نفطية
وشهدت فئات المنتجات الأخرى زيادات ملحوظة في فاتورة وارداتها، ولا سيما «آلات التصنيع والمدخلات»، مثل البلاستيك والأخشاب والمعادن. وكانت هذه الزيادات هي الأعلى المسجلة على مدى السنوات الـ10 الماضية، ومن المرجح أن تعزى إلى قيام الموردين بتخزين المواد قبل تطبيق أسعار الصرف الجمركية الجديدة على المنتجات المستوردة حيث تم تعديل سعر الصرف الجمركي من 1507 ليرات لبنانية إلى 15000 ليرة لبنانية في كانون الأول 2022، وارتفع إلى 45000 ليرة لبنانية في آذار 2023، و60000 ليرة لبنانية في نيسان 2023، و86000 ليرة لبنانية في أيار 2023، بما يتماشى تقريباً مع سعر صيرفة الرسمي. ومنذ عام 2017، تغيرت أنواع المركبات المسجلة من قبل المستهلكين في لبنان ففي عام 2017، حيث كانت 52% من المركبات المسجلة جديدة، بينما الباقي مستخدم. ووفقاً لمستورد سيارات مطلع على إحصاءات الاستيراد، ففي عام 2022، 85% من المركبات المسجلة غير جديدة. وقال رجل أعمال بارز ووزير سابق إن الزيادة في واردات السيارات في عام 2022 ترجع جزئياً إلى الارتفاع المتوقع في الرسوم الجمركية، وتحفيز الواردات قبل النسب الجديدة التي دخلت حيز التنفيذ في أيلول 2022.
التجارة القائمة على النقد
ووفقاً لتقرير صدر مؤخراً عن البنك الدولي، أدّى الفشل المنهجي للنظام المصرفي اللبناني وانهيار الليرة اللبنانية إلى اقتصاد نقدي قائم على الدولرة، تقدر قيمته بنحو 9.86 مليارات دولار أميركي، أو 45.7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2022. ويؤكد التقرير أن منصة صيرفة التي يديرها المصرف المركزي، تعود بالفائدة في المقام الأول على المستخدمين من خلال السماح لهم بالربح عن طريق المراجحة لأن العملة المحوّلة بسعر صيرفة الرسمي من قبل موظفي القطاع العام والمستوردين وبعض الأشخاص والشركات، يمكن إعادة تحويلها بسعر السوق الموازية. وقد فرضت هذه الممارسات في الاقتصاد اللبناني الجديد القائم على النقد ضغوطاً كبيرة على الليرة اللبنانية، في حين أن أنظمة الدفع الإلكترونية المحدودة للبنوك التجارية وضوابط رأس المال غير الرسمية والانتقائية مقرونة بالاعتماد العام على المعاملات النقدية، تعقد مدفوعات المستوردين للموردين.
وقد ساهم المستوردون الذين جمعوا كميات كبيرة من الأوراق النقدية بالدولار الأميركي من السوق، في انخفاض قيمة الليرة اللبنانية فأصبحوا جزءاً من «حرب الاستنزاف» على الأوراق النقدية بالدولار في السوق حيث إن المنافسة الشديدة عليها لا تضع ضغوطاً هائلة على المستوردين فحسب، بل تؤثر أيضاً على الاستقرار العام للاقتصاد اللبناني. كما تتحدى التجارة القائمة على النقد في لبنان القدرات الرسمية على مراقبة وتنظيم تدفّقات رأس المال، ما يؤدي إلى ممارسات مثل التهرب الضريبي، والإقرارات الجمركية والضرائب غير الصحيحة على الشركات، والفساد، وغسل الأموال.
التداول خارج النظام المصرفي
لم تعد المصارف اللبنانية المفلسة بحكم الأمر الواقع قادرة على أداء دورها كوسيط مالي من خلال الوفاء بالودائع وإصدار القروض، ما يعيق نمو الأعمال والاستهلاك. وتوضح هذه النقطة أمثلة متعددة من مؤشرات الابتكار الرئيسية التي أجريت في جميع أنحاء لبنان، وقال عضو في جمعية الصناعيين اللبنانيين إن نقص التسهيلات الائتمانية أجبر المصنّعين على الدخول في دورة من طلب المواد الخام الممولة ذاتياً من عائدات المبيعات، ما أضرّ بالقطاع وسط الانكماش الاقتصادي.
وقال أحد ممثلي قطاع الدواجن إن محدودية الوصول إلى المدّخرات الشخصية وعدم وجود تسهيلات للحصول على ديون جديدة، أدّيا إلى معاناة مزارعي الدواجن من أجل تجميع الأموال من المبيعات القصيرة الأجل، وهو أمر ضروري لشراء شحنات من علف الدجاج؛ وقد نضبت التسهيلات الائتمانية التجارية من المصارف التجارية اللبنانية، مع انخفاض حجم خطابات الاعتماد المستخدمة لدى المصارف للواردات من 5.9 مليارات دولار في العام 2018 إلى 223 مليون دولار في العام 2022. وتشكل خطابات الاعتماد – وهي آلية يعد البنك بموجبها بالدفع لمورد نيابة عن المشتري مقابل شحن البضائع – ركناً أساسياً للتجارة الدولية، حيث تغطي ما لا يقل عن 13 في المئة من التجارة العالمية. وفي لبنان، غطت خطابات الاعتماد 30 في المئة فقط من فاتورة الواردات في العامين 2018 و2019، قبل أن تنخفض إلى ما بين 0.83 في المئة و3.91 في المئة في السنوات التالية.
وبسبب عدم إمكانية الحصول على خطابات الاعتماد، يجلب المستوردون مبالغ نقدية بالدولار إلى المصارف التجارية اللبنانية لتحويلها إلى الموردين، باستخدام حسابات «جديدة بالدولار» حيث تمكن أغلب المستوردين من التكيف مع الرسوم والعمولات المتزايدة التي تفرضها المصارف اللبنانية على تحويلات الدولار إلى الخارج منذ العام 2019. وزادت بعض المصارف العمولات إلى 3 في المئة أو حتى 4 في المئة، ولكن وفقاً لأحد أصحاب الشركات التجارية، سرعان ما انعكست هذه السياسات عندما توقف التجار الذين لديهم دولارات جديدة عن ممارسة أعمالهم من خلال هذه البنوك. وكثيراً ما يتوقف توقيت وهيكل المدفوعات للموردين على علاقتهم بالمصدرين ونوع المنتج، حيث يمكن للموردين طلب دفعة مقدمة ثم الترتيب لبقية الدفع بالتزامن مع الشحنة، أو للمبلغ الكامل مقدماً. هذا ويقدم الموردون الأجانب عدداً قليلاً من حسابات الائتمان المفتوحة – وهي آلية مواتية للمستوردين حيث تتمّ الشحنات قبل الدفع – بسبب عدم وجود ضمانات مصرفية في لبنان وبيئة الركود العالمي؛ مثلاً، يطلب الموردون في الصين وأماكن أخرى في شرق آسيا الدفع مقدماً في حين أن البعض في أوروبا يعرض آجالاً زمنية للدفع تصل إلى ثلاثة أشهر. وقالت مصادر إنه في عدد قليل من الحالات، يمكن للشركات الكبيرة في لبنان الحصول على تمويل تجاري من المصارف في الخارج عندما يكون لديها حسابات وضمانات في بلدان أجنبية. وأيضاً، تتوفر طرق دفع بديلة، بما في ذلك الترتيبات غير الرسمية لتحويل الأموال إلى خارج لبنان للدفع للموردين عبر وسطاء يطلق عليهم غالباً اسم «الصرافين»، الذين يمكنهم بعد ذلك نقل الأموال إلى شريك «مبادل» في تركيا، يقوم بإنشاء حساب مصرفي هناك نيابة عن العميل يمكن استخدامه للمدفوعات الدولية. ويحصل هؤلاء الصرافون على عمولة بنسبة 2 في المئة على التحويلات، وهي نسبة أعلى من النسبة التي تقدمها المصارف اللبنانية وتتراوح بين 0.5 في المئة إلى 1 في المئة. وقال مستورد لبناني إنه غير مهتم باستخدام مثل هذا الترتيب، وإنه قد اتصل بوكالة مرخصة لتحويل الأموال للاستفسار عمّا إذا كان بإمكانها التعامل مع التحويلات في حال حدوث أي إخفاق آخر من جانب المصارف اللبنانية في معالجة التحويلات الدولية، إلّا أن الوكالة وصفت الأمر بالمستحيل، فهذه المنظمات لا يمكنها سوى تحويل مبالغ صغيرة من المال شهرياً. وقال أحد الصناعيين إن هناك نمواً هائلاً في الشركات المتخصصة التي ترتب تجارة البضائع في الصين والتي تخدم السوق اللبنانية منذ عام 2019 حيث تقوم بأخذ الدفع النقدي مباشرة من المستوردين من لبنان ومن ثم ترتيب شحن البضائع.