إستعادة الثقة بالإقتصاد مفتاح الخروج من الأزمة

 

 

يُعاني الإقتصاد اللبناني من «أزمة ثقة» تمنعه من النمو وتحجب عن الماكينة الإقتصادية كل أنواع التطوّر. عمليًا، ما علاقة النظام الإقتصادي بالثقة؟ ما هي آلية تشغيل الإقتصاد من خلال الثقة؟ وكيف يُمكن إستعادة هذه الثقة؟

الثقة مصطلح نستخدمه في حياتنا اليومية من دون أن يكون لنا قدرة حسيّة على تحديدها، بحكم أنها مُتعلّقة بشعور أو قناعة مبنية على هذا الشعور. ويُستخدم مصطلح الثقة لتحديد العلاقة المُستقبلية بين شخص وشخص آخر أو بين شخص ونظام (إقتصادي، سياسي…) أو بين شخص ومُنتج معيّن. فعند مقابلتنا لشخص معيّن ينتابنا شعور خاص داخلي، نوع من الإيحاء الداخلي أنّه يُمكن الوثوق بهذا الشخص أم لا. وهذا الشعور هو الذي يُحدّد مصير علاقتنا المستقبلية فيه، إن من خلال صداقة أو تعامل تجاري أو حتى نشاط إجتماعي أو سياسي. وبالتالي، شعور إيجابي تجاه هذا الشخص يفتح الباب لعلاقات مُستقبلية معه والعكس بالعكس. كذلك الأمر بالنسبة للسلع أو البضائع أو الخدمات. فكل شخص قد يثق بمُنتج مُعيّن أو لا، وهذا الأمر يدفعه إلى شرائه أو شراء منتج غيره

على صعيد الأنظمة، أرست الأنظمة السياسية ترجمّة عملية للثقة، من خلال الوعود الإنتخابية التي أصبحت في الأنظمة الديموقراطية (الفعلية وليست الورقية) المؤشر الأساس للثقة التي يُمكن للمواطن منحها للنظام السياسي من خلال مقارنتها مع الوعود المنفّذة. وقد إقتبست الأسواق المالية هذه الترجمة، حيث أصبح معيار الثقة فيها مبنياً على قول ما ستفعله الشركة، تنفيذ ما قالته، والتذكير بما قالت وما فعلت.

الإقتصاد مبني على التبادل التجاري بين الأُسر والشركات، حيث تقوم الشركات بالإستثمار في نشاط إقتصادي معيّن (زراعة، صناعة أو خدمات) وتستخدم يداً عاملة للقيام بالعمل المطلوب، والذي ينتج منه سلعة أو خدّمة. وتأتي الأُسر للقيام بعملية شراء لهذه السلعة أو الخدمة مقابل ثمن مالي. بمعنى آخر، الثقة بالآخر هي التي تسمح بالقيام بالعملية التجارية معه.

لكن هذه الثقة بالآخر تبقى غير أكيدة، خصوصًا إذا كنا لا نعرف هذا الشخص. من هذا المُنطلق تأتي أهمية القوانين التي تضمن عامل الثقة من خلال المؤسسات العامّة التي تسهر على حسن تطبيق القوانين.

غياب الثقة في الإقتصاد يعني انعزال الأُسر والشركات عن بعضها البعض وعدم القيام بنشاط إقتصادي، ما يعني تراجع الإقتصاد. من هنا تبرز أهمّية قوّة المؤسسات العامّة في تطبيق القوانين التي تؤمّن أرضاً خصبة لعنصر الثقة.

الثقة بالنظام الإقتصادي تنطوي على مستوى تعقيد أعلى من الأنظمة الأخرى، بحكم أنّ عدد اللاعبين هائل. وقد تمّ ترجمة الثقة بالإقتصاد (في ظل الإقتصادات الحرّة) بستّة عوامل: الثبات الأمني، الثبات السياسي، تداول السلطة، قوانين عصرية تواكب التطوّر، قضاء مستقلّ، ومكافحة الفساد.

في لبنان، الثقة بالإقتصاد شبه معدومة، وهذا ما أدّى إلى تراجع الإستثمارات والإستهلاك. فالمُستثمرون يُفضّلون الإستثمار في بلد آخر (المستثمرون اللبنانيون يُفضّلون أغلب الأحيان الدول الإقليمية المجاورة مثل تركيا، قبرص، العراق ومصر) بدل الإستثمار في البلد المعني. وهذا الأمر يجعل الإستهلاك الداخلي يعتمد على الإستيراد لتلبية حاجاته. حتى ولو كانت السلع مُنتجة محلّيًا، فهناك عدم ثقة بجودة المُنتج التي من المفترض أن تضمن مستواها العالي مؤسسات الدوّلة.

كل عوامل الثقة بالإقتصاد في لبنان شبه غائبة. فبعد أعوام عدة من الثبات الأمني، جاءت العملية الإرهابية في طرابلس لتُقلّل من ثقة اللاعب الإقتصادي (مستثمر أو مستهلك) بالإقتصاد، وذلك عبر مخاوف من تكرار هذه الحادثة. وأيضًا على الصعيد السياسي، نرى أن هناك صراعات طاحنة بين القوى السياسية تشتد يومًا بعد يوم، وهذا الأمر ينسحب سلبًا على العوامل الأخرى، من ناحية أنّ السلطة السياسية هي من تأخذ القرار. فتداول السلطة، والذي يتمثّل بالإنتخابات الرئاسية والبرلمانية وتشكيل الحكومة، ليس على ما يرام، كذلك الحال بالنسبة إلى التعيينات الإدارية.

امّا على صعيد القوانين العصرية، يتأخّر لبنان دائمًا في إقرار قوانين عصرية، وإذا أقرّها لا يتمّ تطبيقها أو احترامها، حيث لم تستطع مؤسسات الدوّلة فرض تطبيق هذه القوانين، على مثال قانون منع التدخين وقانون السير وغيرهما. أضف إلى ذلك، أنّ أهم قانون، الذي هو قانون الموازنة، لا يتمّ إحترام مُهله الدستورية التي تُشكّل عاملاً أساسياً في الثقة بالدوّلة.

وعلى صعيد القضاء، فلا يُمكن ضمان استقلاليته بحسب النظرية الإقتصادية إلّا بتحقيق ثلاثة أمور: (1) تشكيل السلطة القضائية من خلال القضاء نفسه وليس من خلال التعيين من قبل السلطة السياسية، (2) تعيين جهازه الإداري من قِبل السلطة القضائية، و(3) ضمان إستقلاليته المالية. وبالتالي نرى أنّ القضاء اللبناني بعيد عن الإستقلالية في ظل غياب هذه العوامل.

أما في ما يخص مكافحة الفساد، فنرى أن لبنان بدأ حديثًا هذه العملية ولكن بشكل خجول جدًا، وبالتالي فإنّ ما تمّ تحقيقه على هذا الصعيد غير كافٍ لإقناع اللاعبين الإقتصاديين.

من هنا، نرى أنّ هناك ضرورة لاستعادة الثقة بالإقتصاد، لكي تعود الإستثمارات والثقة بالمنتوجات الوطنية. هذه الإستعادة تتمّ من خلال العمل على العوامل الستة الآنفة الذكر. وقد يقول البعض (وهو مُحقّ) كيف يُمكن إستعادة الثقة إذا ما استمرّت الصراعات السياسية وسياسة التعطيل التي تنتجّ منها؟

في الواقع، في ظل النظام السياسي الحالي، حيث توجد ثلاثة مستويات في العمل السياسي (دستوري، مذهبي وحزبي)، من الصعب جدًا استعادة هذه الثقة. لكن الترفّع عن الخلافات السياسية وتفضيل المصلحة الوطنية على المصلحة الحزبية قد يكونان كافيين لاستعادة الثقة.

إن استعادة الثقة بالإقتصاد اللبناني ستكون لها تداعيات إيجابية على صعد عدّة: خلق الوظائف، محاربة الفقر، التطور الإجتماعي، البيئة الملائمة، المالية العامّة، النقد الوطني، التعليم، الطبابة… وبالتالي هناك إلزامية لإعطاء اللاعبين الإقتصاديين الثقة بالمستقبل، ثقة تفوق طموحاتهم، لكي يقوم كلٌ بدوره الإقتصادي المُنتظر منه لكي نُخرج إقتصادنا من دوّامة يعيش فيها منذ سنين طويلة.

بواسطةبروقسور جاسم عجاقة
مصدرجريدة الجمهورية
المادة السابقةخريج الجامعة اللبنانية نال أعلى لقب في طب العيون في العالم
المقالة القادمةالمصارف لا تريد الإكتتاب في سندات الـ1 %