قبل الحرب، كانت هناك توقعات بأن يتحسّن اقتصاد لبنان. ورغم أن هذا التعافي، كان مبنياً على مؤشرات رقمية بنتيجتها سيحصل أسوأ أنواع التعافي، إلا أن ظهور متغيّر أساسي مثل الحرب، ضمن مدى زمني يمتدّ لأشهر ومن دون علامات نحو نهاية سريعة، عزّز عودة الاقتصاد إلى مسار التقلّص بدلاً من التعافي السيئ.وبحسب التقرير الذي تصدره «أسكوا» سنوياً بعنوان «مسح التطورات الاقتصادية والاجتماعية في المنطقة العربية»، فإن الحرب دفعت هذه التوقعات بأن يحقّق الاقتصاد اللبناني نمواً بنسبة 1.2% في عام 2023، ليصبح انكماشاً بنسبة 3%. وهذه التوقعات كانت مدفوعة بأداءٍ قوي للقطاع السياحي، بالإضافة إلى التحويلات المالية القادمة من الخارج، إذ أسهمت هذه الحركة في ارتفاع حجم العملات الصعبة القادمة إلى البلد، وهو ما أعطى دفعة للاستهلاك في الاقتصاد. بمعنى آخر، تُشير تقديرات الإسكوا إلى أن النمو الذي كان منتظراً في عام 2023 كان عبارة عن نموّ مدفوع بالاستهلاك، وهو ما يزيد اعتماد الاقتصاد اللبناني على التدفقات الخارجية ويعزّز قطاعات الخدمات الهشّة مثل السياحة، بدلاً من أن يكون تعافياً قويّاً يستند إلى تحسين القدرات الإنتاجية وزيادة فرص العمل.
على أي حال، يقدّم التقرير نتائج القطاعات المحرّكة للاقتصاد في الفصل الأخير من عام 2023، أي في الأشهر الثلاثة التي اندلعت فيها الحرب المستمرّة لغاية الآن. ويستنتج بأن الحرب أسهمت في تراجع القطاع السياحي ربطاً بمؤشرات متعدّدة منها قيام شركات الطيران بإلغاء رحلاتها إلى بيروت منذ منتصف تشرين الأول الماضي، وصدور توصيات من دول عدّة لرعاياها بعدم السّفر إلى لبنان. ويقول التقرير، إن توقعات ما قبل الحرب كانت تشير إلى نمو الناتج المحلّي بنسبة 1.3% و2.2% على التوالي، إلا أن سيناريو الحرب غيّر هذه التوقعات إلى تقلّص بنسبة 0.9% في عام 2024 ونمو بنسبة 1.9% في عام 2025. واللافت أن هذه التوقعات تأتي رغم أن لبنان لا يزال يعاني من نقص في الخدمات الأساسية، ومن اضطرابات سياسية عدّة، من أبرزها عدم القدرة على انتخاب رئيس للجمهورية أو تعيين حاكم للمصرف المركزي. كما أن اقتصاد لبنان يعمل في إطار تعدّد أسعار الصرف التي تتمثّل في سعر صرف معتمد رسمياً بقيمة 15,000 ليرة مقابل الدولار، وسعر صرف للدولار الجمركي يبلغ 86,000 ليرة لكل دولار، وسعر السوق البالغ 89,600 ليرة للدولار الواحد.
توقعات «إسكوا» للمستقبل في لبنان، تستند إلى اتساع في الاستهلاك المستورد؛ إذ يشير التقرير إلى أنه بحلول 2025 سيزداد حجم الاستيراد بنسبة 8.2%. كما يتوقع التقرير تحسناً صغيراً في معدّلات البطالة المرتفعة أصلاً، والتي بلغت 29.6% في عام 2022 وانخفضت إلى 28.4% في عام 2023، ويتوقع أن تنخفض إلى 27.6% في عام 2024. ويُرجّح التقرير أن هذا الانخفاض يرجع أساساً إلى هجرة الأدمغة التي تقلّص حجم القوى العاملة، وليس إلى حدوث تعافٍ اقتصادي فعلي، إذ إن الأزمة والأحداث التي تلتها، من جائحة كورونا وانفجار بيروت، جعلت بيئة الأعمال المليئة بالتحديات صعبة على الشركات للعمل بكفاءة. هذا الأمر يعيق عملية خلق فرص العمل، ويساهم في هجرة الأدمغة.
أما بالنسبة إلى التضخّم، فيتوقّع التقرير أن يستمرّ في الارتفاع، إذ يقول التقرير إن شهر نيسان الماضي كان الشهر الخامس والثلاثين على التوالي الذي يشهد ارتفاعاً في معدل تضخّم الأسعار، وتُظهر أرقام الإحصاء المركزي أن هذا الارتفاع استمرّ في الأشهر التالية، أي أن معدّل التضخّم سجّل ارتفاعاً مستمرّاً في 44 شهراً متتالياً. وينعكس هذا الارتفاع في التضخّم على كل القطاعات الاستهلاكية تقريباً بما فيها قطاعات الأغذية والنقل والألبسة والإسكان والمرافق الحيوية.
في المقابل لا يظهر أي عامل قد يسهم في حصول متغيّرات تُحسّن الوضع الاقتصادي في لبنان. فعلى سبيل المثال، يقول التقرير إن الجمود السياسي يؤدي إلى تعليق تنفيذ مشاريع الاستثمارات العامة. فالإنفاق الحكومي محدود ولا يغطي سوى بنود أساسية، منها رواتب موظفي الخدمة المدنية، ودعم المنتجات الحيوية مثل بعض الأدوية المختارة والتحويلات النقدية إلى الأسر الأكثر فقراً، والتي تتم تغطيتها بواسطة قرض إضافي من البنك الدولي، وذلك في إطار المشروع الطارئ لدعم شبكة الأمان الاجتماعي استجابةً للأزمة وجائحة كورونا. وظلّ العجز المالي ثابتاً عند 5.7% من الناتج المحلي الإجمالي تقريباً في عام 2023، ومن المتوقّع أن ينخفض إلى 3.8% و3.7% في عامي 2024 و2025 على التوالي. ومن المتوقّع أن تنخفض مستويات الدين نتيجة للانخفاض الكبير في قيمة العملة الوطنية وانخفاض قيمة الدّيون المقوَّمة بالعملة المحلية. ومن المتوقّع أيضاً أن تنخفض نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي من 34% إلى 27% في الفترة بين عامي 2023 و2025.