إشكاليّات حقول الغاز اللبنانيّة المقبلة: توزيع الحصص والبيع

خلال أقل من أسبوع، من المتوقّع أن يُنجز المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين مسودّته المكتوبة لاتفاق ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل، فيما يُفترض أن تتضمّن هذه المسودّة حلولاً مقبولة من الطرفين لآخر النقاط العالقة في المفاوضات. وحتّى اللحظة، تتسم تعليقات جميع المصادر المتابعة للمفاوضات بالإيجابيّة، في ظلّ الضغوط الأميركيّة التي تحاول تمرير الملف بأقصى قدر من السلاسة، قبل الانتخابات الإسرائيليّة وما يمكن أن يفضي عنها من تغيّرات في مركز القرار السياسي في تل أبيب (راجع المدن).

إلا أنّ كل ما سبق، لن يعني دخول ملف التنقيب عن الغاز اللبناني مسار الحلحلة قريبًا. إذ بدأت كل من شركتي توتال الفرنسيّة وإيني الإيطاليّة التباحث في ما بينهما في النقاط التي تخصّهما، والتي يجب أن تُحسم قبل استكمال أنشطة التنقيب بعد إنجاز ترسيم الحدود. فرغم إصرار الجانب اللبناني على تحريك نشاط إيني وتوتال في لبنان بمجرّد إنجاز الترسيم، ترى الشركان أنّ جدوى استكمال العمل في لبنان سيتوقّف على مسائل مصيريّة غير محددة بعد.

أمّا أبرز هذه النقاط، فهي كيفيّة بيع الغاز في حال وجد، ومصير حصّة شركة نوفاتيك الروسيّة التي تنازلت عن حصصها في الكونسورتيوم. وفي الوقت الراهن، ترى إيني وتوتال أنّ حسم المسألتين يتوقّف على قرارات يجب أن يتخذها بشكل قاطع الجانب اللبناني، وقبل استكمال التنقيب، ما يوحي أن لبنان سيتجه إلى مفاوضة الشركتين في القريب العاجل، بمجرّد إنجاز مفاوضاته مع الجانب الإسرائيلي.

إشكاليّة حصّة نوفاتيك

وفقًا لمرسوم الرخص البتروليّة الذي صدر عام 2017، حصلت شركة نوفاتيك الروسيّة على حصّة بلغت 20% من رخصتي التنقيب والاستخراج في البلوكين 4 و9، فيما حصلت كل من توتال وإيني بالتساوي على 40% منها. إلا أنّ العقوبات الأميركيّة الأخيرة، والتي طالت نوفاتيك من ضمن الشركات المشمولة بالعقوبات، دفعت الشركة إلى الإنسحاب من جزء كبير من استثماراتها الخارجيّة، لعدم قدرتها على تمويل هذه الاستثمارات بالعملة الصعبة. وكجزء من هذا المشهد، قررت نوفاتيك الانسحاب من الكونسورتيوم الذي جمعها مع إيني وتوتال لاستثمار البلوكين 4 و9.

بعد كثير من التكهّنات، تبيّن أن الاتفاقيّات المعقودة مع الكونسورتيوم تنص على بنود تعطي الدولة اللبنانيّة حق إنفاذ “التنازل الجبري” بحق نوفاتيك في مثل هذه الحالات، ما يعني مصادرة الحصّة التي كانت تملكها نوفاتيك بالكامل وتسجيلها تحت إسم الدولة اللبنانيّة. وعلى هذا الأساس، تبلّغت نوفاتيك طلب التنازل عن حصّتها رسميًّا يوم الثلاثاء الماضي، على أن تُحال إدارة هذه الحصّة لمصلحة هيئة إدارة قطاع البترول في لبنان، العاملة تحت وصاية وزارة الطاقة والمياه. وبهذا المعنى، وبمجرّد تلقّي لبنان التنازل الرسمي من قبل نوفاتيك، ستصبح الدولة اللبنانيّة شريكة في البلوكين 4 و9 بنسبة 20%، إلى جانب إيني وتوتال، على أن تقرر الدولة اللبنانيّة لاحقًا مآل هذه الحصّة.

بعد تملّك الدولة هذه الحصّة، سيكون عليها أن تقرر السير بأحد هذه الخيارات الثلاثة:

السيناريو الأوّل: الرضوخ لرغبة إيني وتوتال، وبيعهما حصّة 20% التي تملكها في الرخصة. مع الإشارة إلى أنّ الشركتين تدفعان بقوّة بهذا الاتجاه، لزيادة أرباحهما من النشاط البترولي في لبنان مستقبلًا، وتقليص الاعتماد على شركاء آخرين لتمويل النفقات الاستثماريّة. فحسب النموذج الاستثماري المعتمد، تتقاسم الشركات -التي تملك رخصة التنقيب والاستخراج- النفقات الاستثماريّة في البداية، وتتحمّل مخاطرها، قبل أن تتقاسم في المستقبل عوائد بيع الغاز في حال العثور عليه بكميات تجاريّة. وفي حال السير بهذا الخيار، سيكون على الدولة الاحتفاظ بحصّة رمزيّة في الرخصة، للمحافظة على ثلاثة أطراف في الكونسورتيوم كما ينص القانون اللبناني.

السيناريو الثاني: أن تعمد الدولة اللبنانيّة إلى البحث عن شريك ثالث، وبيعه حصّتها في الكونسورتيوم. إلا أن إيني وتوتال لم تبديا الكثير من الحماسة تجاه سيناريو من هذا النوع، لكونه سيدفع الشركتين إلى قبول مخاطر شراكات فُرضت عليهما مع خروج نوفاتيك. ومخاطر هذه الشراكة تكمن تحديدًا في حجز الشركة الثالثة حصّة من الأرباح في حال العثور على الغاز بسرعة، في مقابل إمكانيّة اضطرارها للانسحاب من هذا المسار مجددًا في حال تأخر الاستكشاف وارتفاع كلفة التنقيب (تمامًا كما حصل مع نوفاتيك، ما يعيد الأمور إلى نقطة الصفر).

السيناريو الثالث: أن تحتفظ الدولة اللبنانيّة بهذه الحصّة حتّى النهاية، وأن تدخل شريكًا في الكلفة والأرباح معًا. وهذا السيناريو سيعني تحميل الدولة كلفة قد تتراوح بين 20 و30 مليون دولار في المرحلة الأولى، مع إمكانيّة ارتفاع الكلفة إلى مستويات أعلى في حال تأخّر العثور على كميات تجاريّة من الغاز. وهنا بالتحديد، بدا أن الشركتين ترفضان بشكل قاطع سيناريو كهذا، خشيةً من دخول شريك غير موثوق على الإطلاق -أي الدولة اللبنانيّة- في عمليّة التنقيب، ما سيحمّلهما مخاطر إضافيّة.

في خلاصة الأمر، سيكون على الدولة اللبنانيّة أن تحسم أمرها في ما يخص الحصّة الثالثة، التي تملكها في الوقت الراهن حسب العقود، ومن ثم مفاوضة كل من إيني وتوتال على الخيار الذي ستتخذه. مع الإشارة إلى أنّه حتّى لو رضخت الدولة لمطلب توتال وإيني الأساسي، أي بيعهما الحصّة الثالثة، ستضطر جميع الأطراف لدخول مفاوضات جديدة لتحديد قيمة الحصّة المنوي بيعها.

إشكاليّة بيع الغاز

كما هو معروف، وبخلاف النفط الأسود السهل التصدير، تنطوي عمليّة بيع الغاز على تعقيدات لوجستيّة وتقنيّة، إذ يَقتضي إمّا تسييله من خلال منشآت خاصّة ومكلفة، ومن ثم شحنه بالبواخر، أو ضخّه عبر أنابيب خاصّة. وبما أن تخزين الغاز لفترات طويلة بعد الاستخراج يحتاج أيضًا إلى تجهيزات مكلفة، وغير مجدية اقتصاديًّا في أغلب الحالات، تحرص شركات البترول على تأمين تسويق الغاز المُكتشف قبل استخراجه، بل والبحث عن احتمالات تسويقه قبل التنقيب عنه أساسًا، لكون العثور على غاز غير قابل للبيع سيعني خسارة فادحة بالنسبة لهذه الشركات.

لكل هذه الأسباب، تبحث كل من إيني وتوتال عن الخيارات التي يمكن أن يوافق عليها لبنان، في ظل إشكاليّات التطبيع التي تحد من الخيارات اللبنانيّة في ما يخص مشاريع الغاز الإقليميّة. وخلال الأسابيع الماضية، بدا من الواضح أن الشركتين تحرصان على حسم هذه المسألة، أو على الأقل وضع سيناريوهات عدّة متفق عليها مع لبنان، قبل التورّط في توسيع استثماراتهما في أنشطة التنقيب والاستكشاف.

فلبنان غير قادر من الناحية العمليّة على الدخول في شراكة إقليميّة مع إسرائيل، في أي خط أنابيب يمكن أن يصل البلوكات اللبنانيّة بالسوق الأوروبي. ومن غير المجدي اقتصاديًّا كذلك ربط الحقول اللبنانيّة بالسوق الأوروبيّة في مشروع منفصل، أو ربطها مباشرةً بمحطات تسييل الغاز في مصر (محطتي دمياط وإدكو)، حتّى في أكثر الترجيحات تفاؤلًا بخصوص كميّات الغاز التي يمكن استكشافها قريبًا.

ومن ناحية أخرى، لا تملك الدولة اللبنانيّة أي خطوط لنقل غاز داخليًّا، بما يسمح بربط الحقول البحريّة بالسوق المحلّي، وتأمين الغاز للمستهلكين عبر الأنابيب. واستحداث شبكة كاملة من هذا النوع، سيستلزم استثمارات ضخمة قد تحوّل التعامل مع هذه الثروة إلى عبء مالي على المدى القصير، بدل أن تساهم في رفد الدولة بالسيولة. أمّا إنشاء محطّة تسييل خاصّة بلبنان، فمسألة لن تكون مجدية إلا بعد توسّع استثمارات لبنان في هذا القطاع، ومن ثم زيادة الاكتشافات والإنتاج لتتلاءم مع كلفة إنشاء محطات التسييل الباهظة.

السيناريو المتداول في الوقت الراهن يقوم على تقاضي لبنان حصّته الماليّة من الغاز المستكشف، على أن يصبح إنتاج الحقول ملكيّة خاصّة للشركتين لتقررا الطريقة الأمثل لبيعه. وهنا، سيكون بإمكان إيني وتوتال نقل الغاز باتجاه محطات تسييل الغاز في مصر، عبر شبكة الأنابيب التي تربط أساسًا الحقول الإسرائيليّة المجاورة بمحطتي دمياط وإدكو. لكنّ واقعيّة تطبيق هذا السيناريو سيقف عند تقييم الجانب اللبناني لمشروع من هذا النوع، ومدى اعتباره تطبيعاً مباشراً، أو خطوة تجاريّة بين إيني وتوتال لا تربط لبنان بأي عمليّة مباشرة مع إسرائيل.

في خلاصة الأمر، سيكون على لبنان خوض نقاشات معمّقة في جميع هذه المسائل مع توتال وإيني خلال الأسابيع المقبلة، في حال تمكّنه من إنجاز ترسيم الحدود بنجاح. وهذه النقاشات، ستستلزم الكثير من التأنّي والدراسة لتحديد الخيارات الأجدى ماليًّا للجانب اللبناني، سواء في ما يتصل بكيفيّة التصرّف بحصّة لبنان في رخصتي الاستكشاف والإنتاج، أو كيفيّة بيع الغاز المستكشف في حال العثور عليه. كما سيحتاج التعامل مع هذه الملفات إلى حد أدنى من التوافق الداخلي، لمخاطبة الشركتين بلغة مشتركة، وبنبرة تفاوضيّة موحّدة.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةقرار مصرف لبنان بمعدلات فوائد الإدخار والاقتراض
المقالة القادمةإقفال المصارف بوجه الزبائن فقط: أرقام التداول على صيرفة تكشف المستور