في لبنان، ليس جديداً تمويه الخطاب المسموم، الذي يُخفي حرصاً على مصالح شخصيّة وماليّة، بالعناوين الطائفيّة الفضفاضة. بل في واقع الأمر، لطالما كان هذا الأسلوب حرفة السياسيين اللبنانيين، ومن يقف خلفهم في شبكة المصالح المستفيدة من نفوذهم. وبمجرّد أن يُطرح العنوان الطائفي، صراحةً أو مواربة، يصبح من الصعب مناقشة أي مسألة بمعايير المصلحة العامّة أو الحوكمة الرشيدة. وعندما يصل الأمر إلى التهييج الذي يتخذ طابعًا قبليًّا، يمكن تطويع ذريعة “مصلحة الطائفة” لأي هدف أو غاية: معمل كهرباء إضافي هناك، أو وزارة سياديّة محجوزة أبديًا لحساب فلان، أو إغلاق ملف قضائي يخص قضيّة ماليّة. وكلّها حكايات يذكرها أي لبناني.
غير أنّ الأمر بات يأخذ أبعادًا أشد خطورة اليوم، حين يتم إقحام مسار حسّاس ومصيري، مثل مشروع قانون إصلاح أوضاع المصارف، في سجال ركيك وهزلي من هذا النوع. فيسمع المتلقّي أنّ في هذا القانون مساسًا بصلاحيّات الموقع الماروني المالي الأوّل في الجمهوريّة، من خلال البنود التي تنظّم عمل لجنة الرقابة على المصارف والهيئة المصرفيّة العليا، وتقونن صلاحيّاتها. وإذا نجحت هذه الخطابات، الخطيرة الأهداف، في تطيير هذا الجانب من مشروع القانون، فستكون قد أفرغته من جوهره وغايته الأولى. بل وستكون قد أقحمت عمليّة إعادة هيكلة المصارف في نفقٍ مظلم لا يمكن تخايل مآلته في المستقبل.
إشكاليّة القوانين الحاليّة
على عكس ما يُشاع اليوم، لم تتم هندسة صلاحيّات الهيئات الرقابيّة والتقريريّة داخل مصرف لبنان في قانون واحد متكامل، هو قانون النقد والتسليف. ولم يكن في هذا القانون، عند إقراره عام 1963، رؤية متكاملة لكيفيّة ترابط عمل هذه الهيئات، بما يكفل عدم تضارب المصالح أو تعارض الأهداف الموكلة لكل طرف داخل المصرف. أمّا الأهم، لم يكن هذا التشريع “قانونًا أساسيًا” يسمو فوق التشريعات الأخرى، بل كان مجرّد قانون عادي –جرى إقراره بمرسوم اشتراعي- أُضيف إليه العديد من التشريعات التي أكملته لاحقًا.
ولدت الهيئات الرقابيّة والتقريريّة بالتدرّج، على مر العقود التي تلت إقرار قانون النقد والتسليف. وكانت ولادتها دائمًا قيسريّة، وكردّة فعل على أزمة أو حالة ما. وكانت النصوص القانونيّة التي فرضت هذه الهيئات مطوّقة بسعي أصحاب المصالح الماليّة لتقنين أعمال الرقابة والمحاسبة قدر الإمكان. فجاء تنظيم الصلاحيّات القانونيّة لهذه الهيئات مبعثرًا في نصوص تشريعيّة متفرّقة، ومشوبًا بقيود وتضارب للمصالح، وغامضًا في كثير من نواحيه. أمّا الأهم، فهو أنّه لم يكن منسّقًا في تشريع متكامل يستهدف هندسة هذه الصلاحيّات بشكل متناسق (وقانون النقد والتسليف لم يؤدّي هذه الغاية كما أسلفنا الذكر).
هكذا، نصّ قانون النقد والتسليف بدايةً، عام 1963، على دور المجلس المركزي في مصرف لبنان، المختص بإدارة السياسة النقديّة. ثم استحدث تشريع العام 1967، الذي تلى أزمة بنك إنترا، لجنة الرقابة على المصارف، المكلفة بأعمال التدقيق والرقابة في القطاع. ومعها تم استحداث الهيئة المصرفيّة العليا، التي يفترض أن تلعب دور المحاسبة واتخاذ القرارات بشأن المصارف المُخالفة. وبعد عقود، نصّ قانون مكافحة تبييض الأموال عام 2001 على إنشاء هيئة التحقيق الخاصّة، بتكون وحدة “الإخبار” المالي وبصلاحيّات تحقيقيّة وقضائيّة واسعة.
غير أنّ مشكلة تضارب الصلاحيّات هنا كانت واضحة. لم تتمتّع لجنة الرقابة على المصارف باستقلاليّة فعليًا، فاقتصر دورها طوال عقود على إعداد التقارير المُحالة إلى الحاكم، التي يقرّر إمكانيّة الإحالة إلى الهيئة المصرفيّة العليا. يدير الحاكم السياسة النقديّة كرئيس للمجلس المركزي بيد، ويتسلم تقارير لجنة الرقابة بيد أخرى، ويرأس الهيئة المصرفيّة العليا بيد ثالثة. وهو يحيل ما يرد إليه من تقارير إلى هيئة التحقيق الخاصّة، التي يرأسها أيضًا.
والتشريعات التي تنظّم عمليّة تصفية المصارف أو دمجها أو محاسبتها جاءت مبعثرة أيضًا. فلم يتم جمع صلاحيّات لجنة الرقابة والهيئة المصرفيّة العليا في تشريع واحد ينظّم أدوارهما. ومع مرور الوقت، باتت جميع هذه النصوص –المبعثرة أصلًا- قديمة، قياسًا بالمعايير الدوليّة المعتمدة اليوم، والتي باتت تنص على فصل الصلاحيّات والسلطات الرقابيّة والتقريريّة بشكلٍ واضح وصارم.
لا يحتاج المرء إلى كثيرٍ من التحليل ليفهم قدر تضارب المصالح هنا: تختلط أعمال تنظيم القطاع المصرفي بأعمال الرقابة عليه، وبنشاط التحقيق ومكافحة تبييض الأموال. ولكل من هذه الأعمال، أهدافها الخاصّة ونطاقها المتميّز. ويختلط تنظيم السياسة النقديّة، بإدارة شؤون المصارف ومراقبتها، رغم إمكانيّة تباين الأولويّات هنا وهناك.
التجربة خير دليل
الحديث عن إشكاليّات النموذج التنظيمي القائم ليس مجرّد كلام نظري. بل هو وقائع أثبتتها التجربة الأخيرة. كان حاكم مصرف لبنان يدير السياسة النقديّة عام 2015، حين ارتأى وجوب توريط المصارف في الهندسات الماليّة لاجتذاب سيولتها بالعملات الأجنبيّة ودعم الاحتياطات. وكان أن قرّر الحاكم أن يبذخ على أصحاب المصارف بالأرباح الخياليّة، في مقابل امتصاص أموال المودعين والمجازفة بها. وفي لجنة الرقابة، كان ثمّة تقارير تتحدّث عن أوضاع المصارف بعد هذه العمليّات، غير أنّها وصلت جميعها إلى أدراج صاحب القرار نفسه، المسؤول عن هذه العمليّات.
هو قرّر، هو راقب، وهو قدّر سلامة الأوضاع لاحقًا. ومن يحسم بإمكانيّة المحاسبة أو إصلاح الوضع هنا، هو نفسه من ينظّم القطاع أصلًا. وبعض من يجب إصلاح أوضاعهم من المصرفيين، كانوا أساسًا شركاء له في أعمال تجاريّة خاصّة في أوروبا. فلا عجب إذًا أن لا يفعل شيئًا قد يمس بمصالحهم.
هذا بالضبط المفهوم الحرفي لتضارب المصالح في علم الإدارة. أن تطلب من الشخص نفسه أن يحرص على أولويّات قد لا تنسجم دائماً. هل سيكون من مصلحة هذا الشخص “إطلاق صافرة الخطر” إزاء سياسة هو من رأى ضرورة تطبيقها؟ وهل سيكون من مصلحته التصويب على عمليّات هي من بنات أفكاره؟ وما العمل حين تتعارض أولويّة زيادة الاحتياطات والاستمرار بتثبيت سعر الصرف، مع أولويّة ضبط سيولة وملاءة المصارف؟ وماذا لو تعارضت الأولويتان مع أولويّة الرقابة على عمليّات مشبوهة أصلًا؟
لبنان يحتاج الإطار القانوني الجديد
لكل ما سبق ذكره، يحتاج لبنان إلى مشروع القانون الجديد. وأهم ما في مشروع إصلاح أوضاع المصارف، هو إعادة تحديد صلاحيّات لجنة الرقابة على المصارف، والهيئة المصرفيّة العليا، وكيفيّة تنظيم تسلسل العمل بين الجهتين. بخلاف ما يتم تداوله، لن يتم تحجيم دور حاكم مصرف لبنان. بل سيبقى رئيسًا للهيئة المصرفيّة العليا، وسيبقى ناظماً للقطاع المصرفي. لكنّ علاقته بلجنة الرقابة والهيئة المصرفيّة العليا ستتحدّد في إطار قانون واضح ومفصّل. وهذا يحميه –ويحمي المودعين- من تضارب المصالح، قبل أن ينتقص من دوره ومكانته.
في إطار مشروع القانون الجديد، ستتغيّر تركيبة الهيئة المصرفيّة العليا، ليخرج منها ممثّل جمعيّة المصارف وأحد القضاة، في مقابل دخول خبراء يتوزّع أمر اقتراح هويّتهم على ثلاثة وزراء. وسيكون بإمكان لجنة الرقابة على المصارف تكليف شركات تدقيق، للنظر بوضعيّة المصارف وملاءتها، ومن ثم إحالة التقارير مع التوصيات للهيئة المصرفيّة العليا. وفي كل هذه المسارات، ثمّة معايير واضحة لعمليّة التصفية أو الدمج أو إصلاح الوضع. قد لا يكون مشروع القانون مثاليًا، وقد يحتاج إلى التطوير. لكنّ الإطاحة بأهم جوانبه، أي تنظيم أعمال لجنة الرقابة والهيئة المصرفيّة العليا، سيكون ضربة كبيرة لمسار إعادة الهيكلة.
كثيرون سيتضرّرون من تعزيز دور لجنة الرقابة على المصارف، أو من زيادة استقلاليّة الهيئة المصرفيّة العليا، أو حتّى من مسار إعادة الهيكلة نفسه. تذرعوا بحقوق المودعين أولًا، فلما تبيّن أن البت بها سيكون من اختصاص قانون آخر (الانتظام المالي)، لجأوا إلى الذريعة الطائفيّة: إياكم وصلاحيّات الحاكم. وهذا مجددًا، خطاب غير بريء. من يضرب موقع الحاكميّة، هو من يصر على إبقاء الحاكم في نقطة توجب تضارب المصالح. وهو من يفرض احتمال تكرار نموذج السنوات الماضية، عبر تكليف الحاكم بأولويّات متعارضة.