أرجأت لجنة المال والموازنة اجتماعها المُقرر صبيحة اليوم الخميس، والذي كان يفترض أن يباشر دراسة النسخة الجديدة من مشروع قانون إصلاح أوضاع المصارف، أو إعادة الهيكلة كما بات يُعرف. وبحسب المعلومات المتوافّرة، من المقرّر أن تبدأ اللجنة مطلع الأسبوع المقبل دراسة هذا المشروع، من دون أن يتضّح حتّى اللحظة سبب التأجيل المُفاجئ.
النسخة الجديدة، موضوع البحث حالياً، أتت كخلاصة للنقاشات والجلسات التي قامت بها لجنة نيابيّة فرعيّة انبثقت عن لجنة المال نفسها، والتي أنضجت تفاهمات بين الحكومة والمصرف المركزي حول الأمور المُختلف عليها، وخصوصاً تركيبة الهيئة المصرفيّة العليا. وعلى أساس تلك المناقشات، عدّلت اللجنة النيابيّة الفرعيّة المشروع الأصلي المُحال من الحكومة، وأعادت طرحه أمام اللجنة الأم، المال والموازنة. ومن المرتقب أن لا تشهد النسخة الجديدة الكثير من التعديلات الإضافيّة، خصوصاً أن تعديلاتها جاءت بالاتفاق مع الحكومة والمصرف، ما يعطيها غطاءً سياسياً واسعاً.
تعديل مفهوم “المودع الواحد”
في النسخة الأساسيّة المُحالة من قبل الحكومة، نصّت التعريفات على احتساب أموال المودع -وحصّته في الحسابات المشتركة- في جميع المصارف اللبنانيّة، واعتبار هذه الحسابات مبلغاً واحداً وفق مفهوم “المودع الواحد”. بالتأكيد، لا يفرض هذا المفهوم نقل أموال المودع من مصرف إلى آخر لتوحيدها، لكنّ المقصود كان اعتبارها نظرياً وديعة واحدة.
ما أهميّة هذا المفهوم؟
ببساطة: إذا نصّت المُعالجات لاحقاً على حماية أموال كل مودع لغاية مئة ألف دولار (على سبيل المثال)، فمفهوم “المودع الواحد” سيعني حماية كل أموال المودع، الموزّعة في جميع المصارف، لغاية هذا المبلغ. وبهذا المعنى، لن يكون بإمكان هذا المودع حماية كل وديعة يملكها بشكلٍ مستقل، في كل مصرف، لغاية مئة ألف. وبذلك، سيتساوى المودع الذي جمع كل أمواله في مصرف واحد، مع المودع الذي وزّعها على عدّة مصارف، في مستوى الحماية. نفس مستوى الحماية سيملكها الجميع، على كل أموالهم الموزّعة بين المصارف. ولن يحظى من وزّع أمواله على مصارف عدّة بامتياز حماية كل حساب على حدة.
غير أنّ اللجنة الفرعيّة في المشروع الجديد عدّلت هذه القاعدة. وبات مفهوم “المودع الواحد” يعني جمع الحسابات الشخصيّة والمشتركة التي يملكها كل مودع “في المصرف الذي يملك فيه حسابات مصرفيّة”. وعلى هذا الأساس، سيتم إعطاء الحماية لغاية مبلغ معيّن، لأموال المودع في كل مصرف على حدة. وبطبيعة الحال، سيستفيد من وزّع أمواله على المصارف اللبنانيّة، إذ سيحظى بمبلغ معيّن من كل وديعة يملكها.
لماذا تمّ هذا التعديل؟
من المعلوم أن حاكم مصرف لبنان، كريم سعيد، كان متّفقاً مع الحكومة اللبنانيّة على مفهوم “المودع الواحد”، كما ورد في نص مشروع القانون الأصلي. ورأي الحكومة والمصرف المركزي، جاء من زاوية تحقيق العدالة بين المودعين، وعدم إعطاء أفضليّة لمودعين معيّنين لمجرّد قيامهم بتوزيع أموالهم بين المصارف. غير أنّ الرأي المُخالف جاء من صندوق النقد الدولي، الذي فضّل دراسة وتقييم وضعيّة كل مصرف على حدة، ومن ثم احتساب موجبات حماية المودعين فيه بشكلٍ مستقل. وبحسب رأي الصندوق، تم تعديل مشروع القانون، في الصيغة الجديدة.
يمكن القول هنا إنّ رأي الحكومة ومصرف لبنان كان أكثر عدالة، في طريقة ضمان الودائع بين المصارف. لكن في المقابل، كان رأي الصندوق أكثر حرصاً على المسائل التقنيّة في عمليّة إعادة الهيكلة. إذ إنّ اعتبار جميع أموال المودع في جميع المصارف “حساباً واحداً” سيخلق ارتباكات تحول دون تمييز أوضاع كل مصرف على حدة، وهو ما سيعرقل لاحقاً فرز المصارف على قاعدة “إصلاح الوضع” أو “التصفية”.
تقسيم الهيئة المصرفية العليا
عند البحث في دور وتركيبة الهيئة المصرفيّة العليا، كان الخلاف بين المصرف المركزي والحكومة اللبنانيّة. فالحكومة طرحت جمع صلاحيّات اتخاذ القرارات بخصوص المصارف في الهيئة المصرفيّة العليا، الموجودة أصلاً بموجب القوانين القائمة. كما اقترحت تعديل تركيبة الهيئة، لجعلها أكثر استقلاليّة عن حاكم مصرف لبنان، عبر إدخال ثلاث خبراء إليها، مع الإبقاء على الحاكم نفسه رئيساً للهيئة. في المقابل، تحفّظ الحاكم على هذا الاقتراح، باعتباره مسًا بصلاحيّات الحاكميّة، وفضّل إنشاء لجنة جديدة -تحت سيطرته- لتنظيم عمليّة إعادة الهيكلة، من دون تعديل تركيبة الهيئة المصرفيّة العليا.
كما بات معلوماً اليوم، اقتضت التسوية -وفق الصيغة الجديدة- حصر صلاحيّة القرار بيد الهيئة المصرفيّة، كما اقترحت الحكومة، إنما بعد تقسيم الهيئة إلى غرفتين: غرفة أولى لاتخاذ القرارات التأديبيّة، وغرفة ثانية لتنظيم عمليّة إعادة الهيكلة. أُعطيت الغرفة الأولى بعض الاستقلاليّة، غير أنّ الحاكم تمكّن من الإبقاء على سيطرة الحاكميّة على الغرفة الثانية. فثلاثة أعضاء من بين ستّة، في هذه الغرفة، سيكونون من أعضاء المجلس المركزي لمصرف لبنان (وهم الحاكم وإثنين من نوّابه).
الإشكاليّة الأساسيّة هنا، ستكمن في تداخل الصلاحيّات المتوقّع. فعمليّة إعادة الهيكلة، ستشهد مزيجاً من أعمال الرقابة والتفتيش والبحث في أسباب الخسائر، ومراجعة المخالفات الكبرى، فضلاً عن وضع متطلبات إعادة الرسملة وإجراء التغييرات المطلوبة في إدارة بعض المصارف. فكيف يمكن الفصل واقعياً ما بين أعمال التأديب وإعادة الهيكلة؟ ومن سيحدّد الخط الفاصل بينهما؟ غموض النص، سيترك المسألة بيد الحاكم، ما يناقض هدف تعزيز استقلاليّة الهيئة المصرفيّة العليا.
تعديلات ملتبسة
في الصيغة الجديدة، كان ثمّة تعديلات ملتبسة، بما يترك بعض الألغام التي ستظهر لاحقاً عند تطبيق القانون. فالمشروع مثلاً نصّ على إدخال عضو يمثّل المودعين في لجان التصفية، التي سيتم تشكيلها لكل مصرف ستُشطب رخصته. لكنّ النص لم يوضح كيفيّة اختيار هذا العضو: هل سيتم انتخابه مثلاً من عموم المودعين في المصرف؟ أو سيتم اختياره من الهيئة المصرفيّة العليا؟ وعلى أي أساس سيتم التعيين؟
وفي الوقت نفسه، لم ينص القانون على تدابير لمراقبة عمل الهيئة المصرفيّة العليا، في إطار عمليّة إعادة الهيكلة. فبخلاف الممارسات العالميّة الفضلى التي يتم اعتمادها عند حصول أزمات ماليّة شاملة، لم يفرض القانون على الهيئة تقديم تقارير دوريّة بخصوص قراراتها، أو وضعيّة كل مصرف يُحال إلى عمليّة إصلاح الوضع أو التصفية. وبشكلٍ عام، بدا أن القانون يعيد تثبيت الصلاحيات المطلقة التي يتمتع بها الحاكم عند ممارسة صلاحيّته، من دون تقييد هذه الصلاحيّات بموجبات الشفافيّة المطلوبة.
أخيراً، تكمن المشكلة الأهم في أنّ اللجنة الفرعيّة علّقت دراسة تراتبيّة الحقوق والمطالب، التي يفترض اتباعها عند إجراء عمليّة إعادة الهيكلة. مع الإشارة إلى أنّ هذه التراتبيّة كانت تنص على أولويّات السداد، وكيفيّة امتصاص الخسائر بشكلٍ متدرّج، بداية من مساهمي المصرف الذين يفترض أن يتحملوا الشريحة الأولى من الخسائر من مساهماتهم. رأت اللجنة أن البت بهذه المسألة غير ممكن قبل دراسة مشروع قانون الانتظام المالي، وهو ما سيعلّق عمليًا إقرار قانون إصلاح أوضاع المصارف خلال الفترة المقبلة.