بينما ينشغل الرأي العام خلال الأسبوع الراهن بتطوّرات ترسيم الحدود البحريّة، تتسارع الخطوات التي تحاول من خلالها الحكومة تمرير الإطار التشريعي لعمليّة إعادة هيكلة القطاع المصرفي. العمليّة بأسرها ستتم من خلال قانونين، يتم في الوقت الراهن صياغتهما من قبل الفريق الاستشاري الخاص برئيس الحكومة الحكومة، على أن تتم المصادقة عليهما لاحقًا كمراسيم مشاريع قوانين قبل الإحالة إلى مجلس النوّاب.
نطاق قانونيّ إعادة الهيكلة
من الناحية العمليّة، يمكن شرح نطاق اختصاص كل من القانونين على الشكل التالي:
– قانون معالجة أوضاع المصارف في لبنان وإعادة تنظيمها: الذي أنجزت لجنة الرقابة على المصارف أولى مسوادته باللغة الإنكليزيّة، فيما يفترض أن يعمل فريق رئيس الحكومة على ترجمة المسودّة إلى اللغة العربيّة. سيحدد هذا القانون توزّع الصلاحيّات التقريريّة المتصلة بعمليّة إعادة هيكلة المصارف، بين الهيئة المصرفيّة العليا وحاكمية مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف، وكيفيّة تحديد مصير المصارف خلال هذه العمليّة.
– قانون إعادة التوازن للنظام المالي في لبنان: الذي أنجزت الدائرة القانونيّة في مصرف لبنان أولى مسوادته، حيث يفترض أن يحدد القانون كيفيّة التعامل مع فجوة العملات الصعبة في المصرف المركزي، ومصير الودائع المصرفيّة (راجع المدن).
أزمة نظاميّة أم أزمة مصارف متعثّرة؟
يتعامل القانونان مع الأزمة المصرفيّة بوصفها أزمة مصارف متعثّرة، مقابل مصارف قادرة على الاستمرار بالعمل. وهذا ما يفرض السير بعمليّات الدمج والاستحواذ والتصفية بالنسبة للمصارف المتعثّرة، مقابل الإبقاء على “المصارف السليمة”. وبذلك، تكون خطّة التعافي المالي قد ابتعدت عن تشخيص الأزمة بوصفها أزمة نظاميّة شاملة Systemic Banking Crisis، والتي تفرض الدخول في عمليّة إعادة هيكلة شاملة لرساميل القطاع وموجوداته.
الإشكاليّة الأساسيّة هنا، هي أنّ قانوني إعادة الهيكلة يعطيان المصارف المتعثرة حمايات استثنائيّة، في حين أنّ أزمة من هذا النوع (مصارف متعثّرة وأخرى سليمة) كانت تقتضي المباشرة تطبيق القانون 67/2، الذي يحدد مسارات معيّنة للتعامل مع المصارف المتعثّرة، تبدأ بعزل مجالس الإدارة الحاليّة وتعيين أخرى يتمثّل فيها المودعون، وتصل إلى إجراءات تطال أملاك أعضاء مجالس الإدارة السابقين، ويتم معها رفع السريّة المصرفيّة عن حساباتهم وتحويلاتهم إلى الخارج.
ببساطة، يدخل المسار المطروح في هذا التصنيف (مصارف سليمة ومصارف متعثرة) لتفادي التعامل مع الأزمة كأزمة نظاميّة شاملة، إلا أنّه يستمر بإعطاء المصارف المتعثّرة الحمايات التي لا يفترض أن تحظى بها في أزمة من هذا النوع. والخاسر في هذه الحالة طبعًا هو المودع، الذي لن يحصل على الحمايات التي يؤمّنها القانون 67/2، والذي يحدد معايير التعامل مع أزمة كهذه، ولن يحصل في المقابل على الحمايات التي يفترض أن يؤمّنها التعامل مع الأزمات النظاميّة الشاملة، عبر إعادة الهيكلة الجذريّة للقطاع المالي.
أزمة الصلاحيّات
تعطي مسودّة مشروع قانون معالجة أوضاع المصارف في لبنان وإعادة تنظيمها الهيئة المصرفيّة العليا حصّة الأسد من الصلاحيّات المرتبطة بعمليّة إعادة هيكلة القطاع المصرفي، وخصوصًا لجهة البت بمصير المصارف وتصنيفها ما بين مصارف قادرة على الاستمرار ومصارف يجب تصفيتها. وفي المقابل، لا تعطي مسودّة مشروع القانون لجنة الرقابة على المصارف سوى صلاحيّات استشاريّة هامشيّة في هذا المسار.
الإشكاليّة الأساسيّة هنا، ترتبط بترؤّس حاكم مصرف لبنان نفسه هذه الهيئة، بينما تقترح جمعيّة المصارف أحد أعضائها، وينضم إلى عضويتها رئيس المؤسسة الوطنيّة لضمان الودائع، الذي تمتلك المصارف -المساهمة في المؤسسة- التأثير الأكبر في تعيينه. بمعنى آخر، يسيطر حاكم مصرف لبنان ونائبه وجمعيّة المصارف معًا على أربعة أصوات من أصل أصوات الهيئة الستّة.
وهنا بالتحديد، تظهر مشكلة تضارب المصالح، إذ سيبت بمصير المصارف خلال عمليّة إعادة الهيكلة المصارف نفسها، وحاكم مصرف لبنان المسؤول عن نسبة كبيرة من الخسائر المتراكمة في الميزانيّات. مع الإشارة إلى أنّ مسودّات خطّة التعافي المالي كانت قد تضمنت بنوداً تتحدّث عن إعادة هيكلة مصرف لبنان، للتعامل مع إشكاليّات تضارب المصالح المرتبطة بمهام حاكم مصرف لبنان، إلا أنّ الحكومة لم تعمل على أي مشروع قانون من هذا النوع.
ودائع مؤهلة وأخرى غير مؤهّلة!
تبقى إشكاليّة القانونين الأساسيّة مبدأ الودائع غير المؤهّلة، الذي سيشمل جميع الودائع التي نتجت عن تحويلات داخليّة وعمليّات قطع وإيداع شيكات، وهو ما يكرّس بالتحديد التمييز الذي يقوم به مصرف لبنان اليوم من خلال التعميمين 151 و158. وبذلك، يكون مسار إعادة الهيكلة قد ساهم في تشريع الإجحاف الذي يتعرّض له المودع اليوم، بدل الخروج من حالة التعثّر المصرفي. وحتّى بالنسبة إلى الودائع المؤهّلة، والتي سيتم “حمايتها” لغاية 100 ألف دولار، لا يوجد في القانون ما يكفل عدم الإجحاف بحق المودعين من خلال الجزء الذي سيتم سداده بالليرة اللبنانيّة، بغياب أي مسار واضح لتوحيد أسعار الصرف.
أمّا الإشكاليّات الأكبر، فتكمن في البنود التي تفرض على المودعين إعادة جزء من السيولة التي تم استعمالها محليًّا في سداد قروض وإلتزامات، والتي نتجت عن فوائد تم تقاضيها منذ العام 2015. بهذا المعنى، سيفرض القانون على بعض المواطنين التزامات لمصلحة المصرف، لمجرّد استعمالهم سيولة ناتجة عن فوائد مدفوعة سابقًا.
إعفاء المصارف من التزاماتها
بدل معالجة أزمة الودائع، يعمد مسار إعادة الهيكلة إلى إعفاء المصارف من التزاماتها للمودعين، مع ترك أزمة الودائع معلّقة بصندوق استرداد الودائع، الذي سيُنقل إليه ما تتخطّى قيمته 100 ألف دولار من كل وديعة مؤهّلة. بهذه المعنى، لن يحمل المسار المطروح أي حلول فعليّة بالنسبة للمودعين، بل سيحمل حلولاً ذات طابع محاسبي تحيّد المصارف عن الأزمة، وتربط أزمة المودعين بصندوق يُفترض أن تتحمّل الدولة لاحقًا مسؤوليّة السداد له. مع الإشارة إلى أنّ تمكُّنَ الدولة من سداد قيمة الالتزامات الضخمة هذه يبقى مسألة غير واقعيّة، ما سيعني أن أزمة الودائع ستبقى عالقة بهذا الشكل لعقود من الزمن.
في خلاصة الأمر، ومع انكشاف مضامين القانونين، يبدو من الواضح أن هجمة المصرفيين على خطّة التعافي المالي تمكنت من تفريغها من أهم مضامينها، على مستوى التعامل مع فجوة خسائر القطاع المالي. وبهذا المعنى، باتت الخطّة بأسرها مجرّد أداة لتأبيد التأزّم الحاصل اليوم، من دون أن تحقق أي تقدّم على مستوى أزمة القطاع المالي. ومرّة جديدة، تكون المصالح المصرفيّة المترابطة بمصالح المنظومة السياسيّة قد تمكّنت من إبقاء الجميع في دائرة الانهيار المالي، إلى أجل غير مسمّى.