يقال في الأمثال الشعبية الفرنسية إنه “إذا أعطيت حل المشكلة لمن صنعها تصبح لديك مشكلتان”، ولعل هذا هو “أساس المأزق الذي نعاني منه”، بحسب الخبير الاقتصادي الذي شارك في إعداد خطة التعافي الأولى الدكتور روجيه ملكي. فـ”مشكلة سوء الإدارة في القطاع العام، انسحبت على القطاع المصرفي، وأدت إلى ما نشهده اليوم من أزمات تتوالد الواحدة من رحم الأخرى”. وضع لبنان يشبه بحسب ملكي “جسم المريض الذي يحتاج إلى جراح ماهر لاستئصال أحد الاعضاء الداخلية المعتلة، وهذا الجراح اسمه: السوق. استئصال العضو المصاب بالداء يترك الجسم أضعف، لكنه يضمن بقاء الروح في الجسم. وهذا ما يجب أن يحصل بالضبط في القطاع المصرفي أيضاً”.
يعمل في لبنان اليوم نحو 59 مصرفاً. منها 27 مصرفاً تجارياً لبنانياً، 8 منها استثمارية، 6 متخصصة، 8 تجارية تتبع مصارف أجنبية، و9 تجارية أيضا مملوكة مباشرة من مصارف في الخارج.
باستثناء المصارف المتخصصة وبعض البنوك المملوكة مباشرة من أجانب، أو التي تتبع لمصارف قوية، فان البقية تعتبر “مفلسة مع وقف التنفيذ”. الحل الذي نصت عليه خطة التعافي التي أقرت بالتعاون مع “لازارد” ايام حكومة حسان دياب بتصفيتها جميعاً، وإنشاء 4 إلى 5 بنوك “نظيفة” بدلاً عنها، “لم يعد اليوم مجدياً”، من وجهة نظر ملكي. فالواقع الاقتصادي تبدّل رأساً على عقب. فانفاق الدولة على الرواتب الذي كان يشكل 40% من النفقات انخفض من حدود 8 مليارات دولار إلى أقل من 700 مليون، فيما خدمة الدين العام التي كانت تشكل 35% من النفقات متوقفة نتيجة إعلان التوقف عن السداد، والانفاق على الكهرباء الذي كان يشكل 10% من النفقات، تراجع من 2 مليار دولار إلى أقل من 200 مليون بسبب انقطاع الكهرباء الدائم. هذا الواقع الذي يعني ارتفاع المخاطر بشكل كبير نتيجة تراجع النمو وانخفاض الناتج المحلي بأكثر من النصف، ينطبق على المصارف المتوقفة عن السداد نسبياً. ولكن هذا لا يعني انتفاء الحاجة إلى الاصلاح، حيث يتوجب من وجهة نظر ملكي “معاملة المصارف المتعثرة مثلها مثل أي زبون يتعرض للافلاس.
وبالتالي فان المفروض بالدرجة الأولى الشفافية، وإعلان الحقيقة لتبيان حجم المشكلة الفعلي، واتاحة المجال ثانية أمام المعالجة التي تتم بـ 4 خطوات رئيسية، وهي:
1 – مساهمة أصحاب المصارف بضخ رساميل جديدة في مؤسساتهم.
2 – جذب رساميل طازجة من الداخل أو الخارج.
3 – تحويل ودائع الى مساهمات في رساميل المصارف Bail In
4 – تدخل من الدولة بحسب الحاجة والامكانيات من خلال ما يطرح من طرق للاستفادة من الأملاك العمومية لاطفاء جزء من ديونها للبنوك.
هذه الخطوات قد تغير تركيبة وملكية القطاع المصرفي اللبناني في حال لم يعد أصحابها يملكون الثقل الاكبر. لكنه في المقابل يسمح بعودة القطاع إلى سكة العمل المصرفي السليم. وهنا بامكان المصارف القادرة شراء المتعثرة وبالتالي تصغير حجم القطاع وزيادة فعاليته.
يجيب مدير عام بنك لبنان والمهجر أمين عواد بان “الصندوق لم يعط أي توجيهات للمصارف خلال اللقاءين اللذين اجتمعنا فيهما معه عن بعد. بل على العكس، أكد أهمية ودور القطاع المصرفي في بناء الاقتصاد وإعادة الثقة به، ولم يأت على ذكر التصفية الشاملة كما ورد في خطة التعافي الأولى. إنما الانطلاق إلى المعالجة بإقرار خطة الحكومة التي من شأنها التأكيد على حجم الخسائر وإيجاد الطريقة الملائمة لكيفية توزيعها.
السؤال الجوهري الذي يتحدد على أساسه مستقبل القطاع المصرفي يتعلق بمن سيتحمل الخسارة. الدولة مفلسة وتتهرب من تحمل المسؤولية، بحسب عواد. و”ذلك على الرغم من كونها من تسبب بالانهيار نتيجة الهدر والفساد، ليس أقله أهمية الدين المترتب على الكهرباء بمبلغ يفوق 50 مليار دولار. ومصرف لبنان يمتنع عن إرجاع مستحقات البنوك الموظفة لديه بحجة أن الأموال أُقرضت للدولة والأخيرة ممتنعة عن السداد”.
إعادة هيكلة القطاع وتحديد حجمه وعدد المصارف التي يمكن أن تبقى رهن 3 شروط من وجهة نظر عواد، وهي:
أ- تحمل مصرف لبنان مسؤوليته بأصوله المقدرة بـ3 مليارات دولار وبيع أو تخصيص الشركات التي تتبع له مثل الكازينو والميدل إيست.
ب- تحمل الدولة مسؤوليتها من خلال حسن استغلال مرافقها الحالية عبر خصخصة إداراتها أو تلزيمها للقطاع الخاص، والمستقبلية كانتاج النفط والغاز وتخصيص نسبة تترواح بين 10 و20% من عوائدها لتسديد ديونها وبالتالي إرجاع حقوق المودعين. مع الإشارة إلى أن تخصيص 10% فقط من عوائد الغاز سنوياً يضمن إرجاع مليار دولار سنوياً.
ج- تحمل المصارف مسؤوليتها من خلال حمل رؤوس أموالها المقدرة بـ 17 مليار دولار، والتأسيس من جديد. والمصارف غير القادرة على الرسملة تصفى.
الآمال المبنية منذ صدور التعميم 154 على استرداد بين 15 و30% من الأموال المهربة لا سيما من قبل نافذين بعد العام 2017، بددها إشتراك الكل بالتهريب أو «تغطيتهم لبعضهم البعض»، بحسب أمين عواد. وعلى الرغم من ضغط الخزانة الأميركية على كشف المبالغ، والمتورطين من السياسيين في تهريب الأموال المشكوك بنظافتها، والذي ترجم كتاباً من هيئة التحقيق الخاصة إلى المصارف بضرورة تسليم كل المعلومات في غضون 15 يوما ابتداء من تاريخ 11 آذار الحالي، فان عواد يشك بالنتيجة. فالاموال التي أخرجت إما صرفت أو احتجزت في الخارج (روسيا مثلاً) ومن يحتفظ بها لن يسلمها، بل «يضع رجله في الطائرة» ويغادر على وجه السرعة. مع العلم أن التحاويل التي جرت بعد 17 تشرين الأول 2019 تعتبر جريمة برأي عواد، و»على أصحابها ارجاعها بنسبة 100%».